من تحت الأنقاض: قراءة في العقدة والمنشار وسبل الخلاص
Admin 31 مايو، 2025 125
أ. د. فيصل فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
• في لحظةٍ يتقاطع فيها الألم الوطني مع عجز العالم عن الفهم أو التدخل، وفي زمنٍ انكشفت فيه هشاشة الدولة وعمق الجراح التي لم تندمل منذ الاستقلال، تطفو على السطح ثلاث مفردات تختصر المشهد السوداني كله: العقدة، المنشار، والمبادرة.
هذه الكلمات ليست مصطلحات عابرة، بل أدوات لفهم واقعٍ يتداعى أمام أعيننا. العقدة تُمثّل ذلك التشابك التاريخي والسياسي الذي عجزت الحكومات عن حله، وتجاهلته النخب، وتحمّله الشعب. المنشار هو استعارة مرعبة لما نراه من أدوات الهدم الذاتي: بنادق تتكلم بدلًا عن العقول، وتحالفات تُمزق بدلاً من أن توحّد. أما المبادرة، فهي بارقة الضوء التي لا تزال تلوح وسط الركام، يولدها الشعب لا الدولة، وتغذيها القيم لا المصالح.
منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، والسودان يشهد مأساة كبرى لا تنفصل عن ماضيه، لكنها أيضًا لا تُغلق باب مستقبله. هذا المقال لا يقدّم وصفًا للكارثة فحسب، بل يحاول عبر هذه الرموز الثلاثة أن يُعيد تشكيل وعينا الوطني، ويحثنا على التحرّك قبل أن ينقرض الحلم نهائيًا.
أولًا: العقدة – التاريخ الذي لم يُحلّ
العقدة في السياق السوداني ليست مجرد تعبير بلاغي، بل توصيف لحالة استعصاء تاريخي. إنها تراكمات من أزمات لم تُحل، منذ الاستقلال وحتى اليوم:
• عقدة الهوية الوطنية: هل نحن عرب أم أفارقة؟ مسلمون فقط أم متعددون؟ من يملك حق الانتماء الكامل؟
• عقدة السلطة: لم تعرف البلاد تداولًا سلميًا حقيقيًا للسلطة، فغابت الديمقراطية، واحتكرت النخب العسكرية والإثنية مفاتيح الحكم.
• عقدة التنمية والعدالة: المركز ينمو، بينما الهامش يتآكل. الموارد تُنهب، والثروات تُترك تحت أقدام من لا يملكون الوسيلة لاستغلالها.
• عقدة العلاقة مع الدولة: ظلت الدولة في نظر المواطن أداة قمع لا ملاذًا، غنيمة لا ضامنًا، حاجزًا لا جسرًا.
كل هذه العقد ظلت دون حل، وكل محاولات الإصلاح الجزئي أو المؤقت كانت كمن يضع ضمادة على جرح نازف دون تنظيفه. فجاءت الحرب الحالية كنتيجة حتمية لعقدة لم تُفكّ، بل زادها الإهمال السياسي والتواطؤ الإقليمي تعقيدًا.
ثانيًا: المنشار – أدوات التدمير الذاتي
«المنشار» رمز فظيع، لكنه دقيق. لا يصف فقط الخراب، بل يكشف عن اليد التي تحمل أداة القطع، تلك التي لا تفكك العقدة بحكمة، بل تُمعن في تمزيقها. في السودان اليوم، تتعدد المناشير، وتتوزع بين أطراف عديدة:
1. المنشار العسكري
القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لم يأتِ فجأة. هو صراع على السلطة تحت عباءة الدولة. كلا الطرفين يرفع راية «الشرعية»، وكلاهما يستخدم السلاح وسيلة لإثبات الوجود، بينما يُذبح الشعب بلا ذنب.
2. المنشار السياسي
قوى مدنية وقعت في فخ التسويات الشكلية. تحالفات مؤقتة، وخطابات مشوشة، وتغافل عن جذور الأزمة. كثير من القوى تتحدث باسم الشعب، لكنها تتصارع على المقاعد لا على المبادئ.
3. المنشار الإعلامي والطائفي
التحريض، الكراهية، والشيطنة أصبحت عملة رائجة. لم تعد الوسائط وسيلة توعية، بل أداة لتمزيق النسيج الاجتماعي. العرق والدين والجغرافيا أصبحت أسلحة.
4. المنشار الإقليمي والدولي
دول إقليمية ترى في السودان ساحة نفوذ وموردًا اقتصاديًا، لا وطنًا ذا سيادة. دعم مالي وتسليح خفي، وتحالفات لتفكيك البلد وفق مصالح لا علاقة لها بمصير السودانيين. أما المجتمع الدولي، فقد اختار الصمت أو البيانات الباردة.
5. منشار الفساد
الحرب لم توقف السرقة. لا تزال هناك شبكات تنهب المساعدات، تتاجر بالدواء والغذاء، وتحتكر قوت الناس. المنشار هنا ليس فقط في الجبهة، بل في السوق، في الإدارة، في كل زاوية من زوايا الحياة.
المنشار إذًا ليس حدثًا، بل نهج. نهج يقوم على القطع لا الوصل، على النهب لا البناء، على الإلغاء لا الشراكة.
ثالثًا: المبادرة – شعلة الأمل في الظلام
وفي قلب هذا الجحيم، تظهر كلمة «المبادرة» كفعل مقاومة. ليست المبادرة بالضرورة خطة حكومية أو وثيقة سياسية، بل حركة نابعة من الناس، من الداخل، من القاع.
1. المبادرات الشعبية والتكافلية
من رحم الفقر والخطر، وُلدت «التكايا» — مطابخ جماعية تطبخ وتوزع الطعام للمحتاجين. يديرها متطوعون في الأحياء المحاصرة. ظهرت مراكز إسعاف شعبي، وعيادات متنقلة، ومساعي فردية لإجلاء المدنيين.
2. دور المغتربين والشتات
السودانيون في الخارج لم يصمتوا. أنشأوا غرف دعم، نظّموا حملات تبرعات، ضغطوا على حكومات العالم لوقف الحرب، ونقلوا معاناة الداخل إلى الصحافة الدولية. الشتات السوداني، من كندا إلى الخليج، تحوّل إلى عمق استراتيجي.
3. مبادرات المعرفة والتوثيق
باحثون، صحفيون، فنانون، وناشطون يوثقون الجرائم، يحكون القصص، يكتبون الشعر والراوية والمقال. الحكاية صارت فعل مقاومة. صوت الضحية يعلو على ضجيج المدافع.
4. محاولات سياسية نزيهة
رغم هيمنة السلاح، لا تزال هناك مبادرات مدنية تسعى لإيجاد مخرج. شباب يعيدون تعريف العمل السياسي كخدمة لا كسلطة. نساء يرفعن أصواتهن من أجل السلام، لا من أجل المحاصصة.
المبادرة هنا هي الحياة نفسها، هي القدرة على أن تقول: «لن نُمحى». إنها فعل بقاء، وفعل خلق، في زمن يتسابق فيه الكل على التدمير.
بين العقدة والمنشار، يقف السودان على حافةٍ حرجة من تاريخه، لا يشبهها سوى تلك اللحظات المفصلية التي تصوغ مصير الأمم: فإما أن نعيد تشكيل وعينا الجماعي، أو نستسلم للتفتت المتسارع.
لقد ورثنا العقدة من نظام سياسي فاشل، من نخبة تجاهلت الواقع، ومن دولة لم تحتوِ شعبها يومًا. ثم جاء المنشار، لا كرمز فقط، بل كأداة يومية تقطع الأحياء وتفصل المدن وتمزّق الروابط: منشار الحرب، منشار الكراهية، منشار الطمع. لكنه لن يكون النهاية.
المبادرة، رغم ضعفها الظاهري، تحمل قوة جوهرية لا يدركها المتحاربون: إنها نبض الحياة في قلب الموت، وشهادة بأن هذا الشعب لا يُهزم بسهولة، بل يعيد اختراع الأمل من تحت الرماد. لقد رأينا كيف أن نساءً في مناطق النزوح، وشبابًا في الخرطوم، ومغتربين في الشتات، بدأوا يصنعون بذور المستقبل بأدوات بسيطة: طبق طعام، قلم يكتب، صوت يفضح، أو فكرة تُزرع.
ليس لنا ترف الانتظار، ولا ترف الحياد. من ينتظر أن يحلّ الزمن الأزمة، أو أن يهبط الحل من قصر، أو قاعدة جوية، أو بيان خارجي، فهو يطيل عمر المنشار ويزيد تعقيد العقدة. لا أحد سينقذنا غيرنا.
السودان لن ينهض بالإنكار، بل بالمواجهة. لن يبنى بالولاء الأعمى، بل بالنقد البنّاء. لن يحكمه السلام بالتمني، بل بالمبادرة الواعية التي تزرع وتُداوي وتبني وتُحاسب.
إنها ليست معركة بين جيشين، بل معركة بين فكرتين:
• فكرة الوطن كمزرعة أو غنيمة، حيث تُختزل الدولة في سلطةٍ يحتكرها الأقوى، ويُقصى فيها الضعفاء، ويُحكم الناس بالقوة لا بالقانون، وتُوزّع الموارد على أساس الولاء لا الكفاءة. في هذه الفكرة، يُنظر إلى الوطن كغنيمة حرب، لا كعقد اجتماعي، وتُفصَّل الهويات على مقاس المصالح لا على مقاس التاريخ والثقافة والمصير المشترك.
• وفكرة الوطن كبيت يسع الجميع، لا يقف على أكتاف فئة واحدة، ولا يطرد أبناءه إن اختلفوا، بل يتسع بالرأي والرؤية، ويقوى بالتنوع والعدالة، ويُدار بعقل راشد وقلب رحيم. في هذا البيت، تُبنى المواطنة على المشاركة لا التبعية، وعلى الحقوق لا الصدقات، وعلى الواجب لا الخوف.
وما بين هاتين الفكرتين، تتصارع الأرواح والنوايا، وتُحسم معركة السودان الكبرى؛ معركة البقاء كأمة لها مستقبل، لا كأرض تتقاسمها البنادق.
فهل نملك الشجاعة لنكون من حملة المبادرة؟ من الذين يضعون حجر الأساس لوطن جديد، لا يقام على أشلاء، بل على قيم ومؤسسات تعيد للسودانيين كرامتهم؟
أم نكتفي بدور المتفرج الصامت في مسرح الخراب، نُحصي الضحايا، ونحفظ أسماء المدن المدمّرة، ونتداول صور المجازر، بينما يفوتنا أن الخراب لا يُنهي نفسه، بل يتمدد ما لم نقف له سدًّا من وعي وفعل ومحبّة حقيقية لهذا الوطن؟
الاختيار ليس بين السلاح والسلاح، بل بين الموت الجماعي أو ولادة مشروع وطني جديد. فماذا نختار؟
شارك المقال