من الفوضى إلى الاستقرار: كيف يتجنب السودان أخطاء الماضي ويبني مستقبله؟
Admin 10 مايو، 2025 49
أ. د. فيصل محمد فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
1. مقدمة موجزة للمشكلة
منذ استقلاله في عام 1956، يمر السودان بدورات متكررة من الأزمات: انقلابات عسكرية، نزاعات أهلية، انهيار مؤسسي، وتدهور اقتصادي مزمن. تعثّرت الانتفاضات الشعبية في الوصول إلى تحول ديمقراطي حقيقي، بينما فشلت النخب المتعاقبة في تقديم مشروع وطني جامع.
تتجدد الكارثة اليوم في صورة حرب مدمّرة اندلعت في أبريل 2023 بين قوات الدعم السريع والجيش النظامي، وخلّفت آلاف القتلى وملايين النازحين داخليًا ولاجئين في دول الجوار. هذه الحرب كشفت هشاشة الدولة، وعمّقت الانقسام الاجتماعي، وهددت بانهيار شامل لمؤسسات الصحة، التعليم، العدالة، والمرافق العامة.
الأخطر من ذلك هو التفتت المجتمعي، حيث تفكّكت شبكات التضامن الأهلي، وتراجعت قدرة المجتمعات على الصمود أمام آثار النزوح، الفقر، وفقدان الأمن الغذائي. على صعيد التعليم، تسببت الحرب في إغلاق آلاف المدارس والجامعات، وحرمان ملايين الأطفال والشباب من الدراسة، ما ينذر بجيل ضائع وتراجع حاد في رأس المال البشري. أما القطاع الاجتماعي، فقد انهارت برامج الحماية والرعاية، وتراجعت الثقة في المؤسسات الخدمية، وسط غياب كلي للدولة في كثير من المناطق. ومع ذلك، فإن هذه اللحظة التاريخية تحمل أيضًا بذور تجديد جذري، إن أُحسن إدارتها بوعي وجرأة.
2. تحليل الخلفية وأسباب الإخفاق
أ. غياب المشروع الوطني الجامع
لم تنجح الدولة السودانية منذ الاستقلال في بلورة مشروع وطني يعكس تنوع البلاد ويجمع شعوبها. غلبت الانتماءات الضيقة (العرقية، الجهوية، الدينية) على الهوية الجامعة، ما أدى إلى سياسات تهميش ممنهج، وغذّى النزاعات.
ب. عسكرة السياسة وفشل الانتقال المدني
منذ أول انقلاب في 1958 بقيادة إبراهيم عبود، ظل الحكم رهين المؤسسة العسكرية. حتى الفترات المدنية لم تخرج عن قبضة تحالفات فوقية، مما أفشل كل محاولات التأسيس الديمقراطي ومزّق الثقة الشعبية في النخب.
ج. مركزية مفرطة وإهمال الهامش
تركزت السلطة والثروة في الخرطوم، بينما ظلت الأقاليم، خصوصًا دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، تعاني من ضعف البنية التحتية والخدمات والتنمية. هذه المركزية أسّست لثقافة سياسية فوقية، أشعلت تمردات متكررة.
د. ضعف المؤسسات وعدم استقلال القضاء
تعرض القضاء للتسييس، وغياب الشفافية، وتغلغل الفساد، مما جعل القوانين تُستخدم أداة للتسلّط لا لتحقيق العدالة. كما غابت آليات المساءلة في قضايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
هـ. تجاهل الشباب والشتات
رغم دورهم القيادي في الانتفاضات، ظل الشباب مستبعدين من دوائر اتخاذ القرار. كذلك، لم يتم استيعاب السودانيين في الشتات في عمليات التشاور أو التخطيط، برغم خبراتهم ومساهماتهم الاقتصادية.
3. الفرص المتاحة
أ. نضج وعي شعبي متقدم
لجان المقاومة والكيانات المهنية والمجتمعية أظهرت تطورًا في وعي التنظيم والعمل السلمي، وهو ما يمكن تحويله إلى بنية مؤسسية جديدة إذا توفر الدعم السياسي واللوجستي المناسب.
ب. دعم دولي مرن
لا يزال المجتمع الدولي يبدي استعدادًا لدعم السودان إذا وُجدت قيادة سودانية موثوقة ورؤية استراتيجية واقعية. الدعم الفني والتقني متاح لإصلاح المؤسسات، بشرط ضمان الملكية الوطنية للمسار.
ج. خبرات الشتات
يمتلك السودانيون بالخارج قدرات هائلة في الاقتصاد، الطب، التكنولوجيا، والقانون، يمكن دمجها ضمن برامج وطنية لإعادة الإعمار، إذا تم إنشاء آليات شاملة لإشراكهم في اتخاذ القرار.
د. ثروات اقتصادية كامنة
يملك السودان موارد طبيعية ضخمة (أراضٍ زراعية، مياه، ذهب، معادن نادرة) يمكن أن تكون ركيزة لتنمية شاملة، إن توفرت الحوكمة الرشيدة والبنية التحتية المطلوبة.
هـ. نماذج عدالة انتقالية ناجحة
تُعد تجارب جنوب إفريقيا، سيراليون، ورواندا أمثلة ملهمة لبناء السلام بعد الحروب، عبر لجان الحقيقة، برامج الجبر، والمحاسبة المحدودة، مع التركيز على المصالحة المجتمعية.
و. فرص التحوّل الرقمي والتقني
تشكل الثورة الرقمية فرصة استراتيجية لإعادة بناء الدولة السودانية بطرق مرنة وفعالة. التحول إلى الإدارة الرقمية، رقمنة الخدمات الحكومية، وتوظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم والصحة، يمكن أن يعوّض ضعف البنية التقليدية ويزيد من الشفافية. كذلك، فإن الشباب السوداني أثبت قدرته على استخدام التكنولوجيا في التنظيم، الإعلام، والابتكار، ما يجعل الاستثمار في هذا المجال خيارًا حيويًا.
4. التوصيات العملية
1. صياغة ميثاق وطني جامع
• إطلاق حوار وطني شامل ومستقل يضم كل المكونات بما فيها ضحايا الحرب، الشباب، النساء، وقوى التغيير.
• تبنّي وثيقة تأسيسية تضمن التعدد وتقطع مع المركزية والهيمنة الأحادية.
2. إعادة هيكلة الدولة والمؤسسات
• توحيد القوات تحت سلطة مدنية، وتطوير جيش قومي محترف.
• إصلاح نظام الخدمة المدنية وإنشاء آليات توظيف عادلة وشفافة.
3. إطلاق عملية عدالة انتقالية شفافة
• تشكيل مفوضية قومية مستقلة للعدالة الانتقالية.
• سن تشريعات لتوثيق الجرائم، تعويض الضحايا، ومنع الإفلات من العقاب.
4. لامركزية الحكم والتنمية المتوازنة
• تمكين حكومات الأقاليم من صلاحيات تنفيذية ومالية فعلية.
• اعتماد نظام محلي للتخطيط والمساءلة يعتمد على مشاركة المواطنين.
5. إشراك الشباب والشتات في إعادة الإعمار
• تخصيص مقاعد محجوزة للشباب والنساء في المجالس التشريعية القادمة.
• إطلاق منصة وطنية لإدماج الكفاءات السودانية في الخارج في المشاريع الاستراتيجية.
6. بناء نظام تعليم مدني ومواطني
• إدخال التربية المدنية وحقوق الإنسان في جميع المراحل التعليمية.
• تشجيع الابتكار المحلي وربط التعليم بسوق العمل.
7. تطوير شراكات استراتيجية مع المجتمع الدولي
• وضع خطة خمسية بقيادة سودانية لإعادة الإعمار، تتضمن أولويات واقعية وميزانية شفافة.
• إنشاء صندوق دولي متعدد المانحين بإشراف مشترك بين الحكومة الانتقالية والمجتمع المدني.
8. إصلاح المشهد الإعلامي وبناء خطاب وطني جامع
• دعم وسائل إعلام مستقلة تنقل أصوات جميع مكونات الشعب.
• إنشاء هيئة وطنية للإعلام تضع ضوابط مهنية وتواجه خطاب الكراهية والانقسام.
9. تمكين المرأة في مرحلة إعادة البناء
• اعتماد نهج يدمج النوع الاجتماعي في السياسات والبرامج الحكومية.
• دعم مشاركة المرأة في مفاوضات السلام، وصياغة الدستور، والتمثيل السياسي، بما يتجاوز مجرد التمثيل الرمزي.
• تمويل مشاريع تقودها نساء في مجالات الزراعة، التعليم، وريادة الأعمال، مع توفير آليات حماية قانونية لحقوق المرأة في النزاعات والمجتمعات النازحة.
مستقبل السودان وأمن القرن الأفريقي
لا يحتاج السودان إلى حلول مستوردة أو وصاية، بل إلى شراكة ناضجة مع المجتمع الدولي قائمة على احترام السيادة والمساءلة المتبادلة. الدعم الدولي يجب أن يركز على تمكين البنية التحتية الديمقراطية، وبناء القضاء المستقل، وتعزيز آليات الشفافية والمساءلة. لكن مستقبل السودان لا يخص السودانيين وحدهم. إن استقراره يمثل حجر الزاوية في أمن القرن الأفريقي ومنطقة النيل، ويمثل ركيزة لتحقيق الربط الإقليمي، والتكامل الاقتصادي، وتخفيف موجات الهجرة غير النظامية. فشل السودان سيعني تصدير عدم الاستقرار، بينما نجاحه سيفتح أفقًا جديدًا للسلام والازدهار في واحدة من أكثر مناطق العالم هشاشة.
لقد تعب السودانيون من الأوهام، من الزيف، من الاستبداد المتجدد بأسماء جديدة.
آن أوان الحقيقة، مهما كانت موجعة. آن أوان الرؤية، لا رد الفعل. آن أوان الوعي الجماعي.
فإما أن نصوغ وطنًا يسكننا كما نسكنه… وإما أن نظل نحترق في دوائر من الفوضى المؤجلة.
السودان لا ينقصه شيء ليكون عظيمًا، سوى أن نؤمن أنه يستحق. هذا البلد لا تنقصه الموارد، بل الحوكمة. لا ينقصه الذكاء، بل الرؤية. لا تنقصه الأيادي، بل الثقة. كل سوداني ناجٍ من هذه الحرب، سواء كان في الداخل أو في الشتات، هو حجر في مشروع بناء وطن جديد. وطن لا يُبنى بالبكاء على الأطلال، بل بمسح الغبار عن الجراح، وبناء المؤسسات من الصفر.
الجيل القادم يستحق أن يولد في دولة لا تخافه، بل تحتفي به. يستحق أن يعيش لاجئًا في وطنه، لا خارج حدوده.
لقد آن الأوان لتجاوز الماضي لا بنسيانه، بل بفهمه ومواجهته، ثم تجاوزه نحو مستقبلٍ يستحقه هذا الشعب الصابر.
السودان ليس مجرد جغرافيا، بل رسالة حضارية يمكن أن تنهض من جديد، إذا توافرت الإرادة الوطنية والشراكة العالمية الواعية.
شارك المقال