من السمسرة إلى الاستثمار الذكي: كيف نبني اقتصاد ما بعد الحرب؟

33
محمد كمير جاهز

محمد كمير

كاتب صحفي

• قبل اندلاع الحرب، كان الاقتصاد السوداني يعتمد على تركيبة متباينة من الأنشطة التقليدية والحديثة، إذ شكلت الزراعة الدعامة الأساسية لحياة ملايين السودانيين، سواء في الزراعة المطرية التقليدية أو المروية، وكانت تساهم في الأمن الغذائي وتوفير فرص العمل. إلى جانبها، نشط قطاع الصناعة خاصة في المدن الكبرى مثل الخرطوم ومدني، مع تركيز على الصناعات الغذائية، الألبان، النسيج، والتعبئة.

أما قطاعات الأعمال الحرة، فقد برزت بصورة ملحوظة أعمال السمسرة، لا سيما في سوق العقارات والعربات، حيث تشكلت شبكات معقدة من الوسطاء الذين يعتمدون على العلاقات الاجتماعية، والمضاربة لتحقيق أرباح سريعة. كما برز قطاع الذهب كأحد أهم مصادر الدخل، سواء من خلال التعدين الأهلي، أو عبر خدمات مساندة مثل تأجير المعدات، نقل المعدنيين، وتوفير المواد الغذائية لهم في مناطق الإنتاج. ولا يمكن تجاهل دور الأعمال الصغيرة مثل المقاهي، المطاعم، محلات الشاي، الأفران، وورش الصيانة، التي كانت توفر دخلاً يومياً مستقراً لشريحة واسعة من الناس.

لكن الحرب جاءت وغيّرت كل شيء. توقفت عجلة الإنتاج في معظم مناطق السودان، وانهارت الأسواق في المدن الكبرى، واضطر ملايين السودانيين للنزوح داخل البلاد وخارجها.

في المناطق التي أصبحت جبهات صراع أو ممرات عبور، أصبحت التجارة مرتبطة أكثر بالبقاء، وانعدمت الثقة في النظام المصرفي، ما جعل الناس يعتمدون على النقد المباشر والمدخرات الشخصية. كثيرون ممن كانوا يعملون في العقارات أو التعدين أو الخدمات الصغيرة فقدوا مصادر دخلهم كلياً، ووجدوا أنفسهم في وضع جديد يتطلب إعادة التفكير في كل شيء.

في المقابل، يشهد العالم من حولنا تحولات كبيرة في شكل الأعمال، مدفوعة بالتكنولوجيا والرقمنة وانتشار أدوات الاستثمار الصغير والمتوسط. في المنطقة، برزت نماذج الأعمال الرقمية، التجارة الإلكترونية، الاقتصاد التشاركي، والتوظيف عن بعد كوسائل لخلق فرص دخل جديدة. أصبح بالإمكان، مثلاً، استثمار مبالغ صغيرة في صناديق استثمارية، أو العمل مستقلاً عبر الإنترنت، أو إطلاق مشروع رقمي يستهدف المغتربين.

في السودان، ومع ضيق الخيارات وتشتت رأس المال البشري، لا بد من إعادة تشكيل الثقافة الاستثمارية بما يتناسب مع الواقع الجديد. يجب أن ننتقل من ثقافة الربح السريع عبر السمسرة والمضاربات، إلى بناء أدوات استثمارية تعتمد على المعرفة والتراكم، حتى وإن كانت برؤوس أموال صغيرة. المواطن الذي بقيت له مدخرات محدودة، يحتاج إلى منصات موثوقة للاستثمار الجماعي، صناديق ادخار بسيطة، أو مشاريع تشاركية صغيرة في مجالات مثل الزراعة الموجهة للتصدير، الصناعات الغذائية، أو الخدمات الرقمية.

كما يحتاج السودانيون في المرحلة القادمة لتعلم مهارات جديدة، أبرزها: الثقافة المالية، استخدام التكنولوجيا في الأعمال، التسويق الرقمي، وإدارة المشاريع الصغيرة. يجب أن يتعلم الشباب كيف يبدؤون مشاريعهم بأقل التكاليف، وكيف يديرون المخاطر، وكيف يخلقون قيمة مضافة حتى في أصعب الظروف.

إن الخريطة الاستثمارية تتغير. ولم يعد الموقع الجغرافي هو العامل الحاسم في نجاح المشاريع، بل المهارة والمرونة والفهم العميق للسوق الجديد. إذا استطعنا توجيه هذا الفهم لخلق بيئة داعمة للمشاريع الصغيرة والرقمية، فربما نتمكن من تحويل الكارثة إلى فرصة، ومن الحرب إلى نهضة اقتصادية تبدأ من المواطن العادي.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *