من الاستقلال إلى الحرب: أزمة غياب الصبر والبصيرة في السياسة السودانية
Admin 4 أكتوبر، 2025 91
أ. د. فيصل محمد فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
مدخل تأملي
• عندما ارتفع علم السودان لأول مرة صباح الأول من يناير 1956، كان المشهد أشبه بولادة جديدة. شوارع الخرطوم امتلأت بالأهازيج، والأغاني الوطنية صدحت في كل مكان، والناس احتشدوا بفرح غامر، يرون في الاستقلال بداية عهد جديد يفتح الباب أمام الحرية والتنمية والوحدة الوطنية. السودان وقتها كان يوصف بأنه «سلة غذاء العالم»، وكان يُنظر إليه باعتباره أحد أكثر الدول الإفريقية تأهيلاً للنهضة بفضل أراضيه الخصبة وموارده الهائلة وموقعه الاستراتيجي على النيل.
لكن ما بين الحلم والواقع، برزت فجوة عميقة. فسرعان ما انشغلت النخب السياسية بصراعاتها الحزبية والجهوية، وظهر الجيش باعتباره «المنقذ» في كل لحظة اضطراب. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، ظل السودان يدور في حلقة مفرغة من الانقلابات العسكرية، التجارب الديمقراطية القصيرة، الانتفاضات الشعبية، ثم العودة إلى النقطة الصفر. وهكذا انطبق المثل على مسيرة سبعين عاماً: «ماشين بلا صبر ولا بصيرة».
الصبر في السياسة يعني القدرة على بناء المؤسسات خطوة بخطوة، وتحمل الصعاب من أجل المستقبل. أما البصيرة فهي الرؤية العميقة التي تتجاوز اللحظة الراهنة لتستشرف الأفق البعيد. غاب الاثنان معاً عن الساسة والعسكر في السودان، فكان أن ضاعت العقود وتبخر الحلم.
الصبر والبصيرة كقيم سياسية
الصبر في السياسة ليس استسلاماً ولا تباطؤاً، بل هو القدرة على إدارة الزمن بحكمة، والنظر إلى مسار بناء الدولة كرحلة طويلة المدى وليست سباقاً قصيراً. فالدول المستقرة لم تُبنَ في يوم أو عام، بل عبر تراكم التجارب والإصلاحات، وصبر الشعوب والنخب على معالجة المشكلات واحدة تلو الأخرى. الصبر يعني أن يقبل القادة أن التغيير يحتاج وقتاً، وأن الإصلاح الحقيقي لا يتحقق إلا عبر حوار طويل، ومؤسسات قوية، وتوافقات قد تبدو بطيئة لكنها تضمن الثبات والاستمرارية.
أما البصيرة، فهي البعد الاستراتيجي الذي يرى ما وراء اللحظة الراهنة. هي القدرة على استشراف المستقبل، وتوقع المخاطر، ووضع سياسات لا تخدم فقط الحاضر، بل تؤسس لمستقبل آمن للأجيال القادمة. البصيرة تعني أن يتجاوز القائد نزوات السلطة الآنية ليبني رؤية وطنية شاملة، وأن يدرك أن القرارات المرتجلة، حتى وإن بدت نافعة في لحظتها، قد تتحول إلى كوارث إذا غابت عنها النظرة العميقة.
الصبر يحمي الديمقراطية من الانهيار تحت ضغط العجلة والتنافس القصير المدى، والبصيرة تحمي الحكم من الارتجال والانجرار وراء الحلول السهلة أو الشعارات الجوفاء. وعندما يغيب الاثنان معاً، يصبح التاريخ سلسلة من الأخطاء المتكررة: انقلابات متتالية، دساتير مؤقتة، شعارات تتغير كل عقد، ومواطن يدفع الثمن جيلاً بعد جيل.
لقد أثبتت تجارب الأمم أن الدول التي امتلكت قيادات تتحلى بالصبر والبصيرة، مثل جنوب إفريقيا بعد نهاية الأبارتايد، أو غانا بعد سلسلة انقلاباتها، استطاعت أن تكسر الحلقة المفرغة وتؤسس لمسار جديد. أما السودان، فقد ظل أسير قيادات عجولة قصيرة النظر، لم تتحلَّ لا بالصبر على بناء المؤسسات ولا بالبصيرة لرؤية المستقبل، فظل يعيد أخطاءه في حلقة لا تنتهي.
عبود: بداية عسكرة السياسة
عام 1958، أطاح الفريق إبراهيم عبود بالحكومة المدنية الأولى. رفع شعارات النظام والانضباط، لكن سرعان ما اصطدم بأزمة الجنوب. بدلاً من الصبر على الحوار السياسي، لجأ إلى الحل العسكري، فاشتعل التمرد. غابت البصيرة عن قراءة تعقيدات التنوع الثقافي والديني، فكانت النتيجة احتجاجات انتهت بثورة أكتوبر 1964، التي أعادت المدنيين إلى الحكم.
سنوات الانتقال الأولى (1964–1969)
تجربة ما بعد ثورة أكتوبر كانت فرصة ذهبية لبناء ديمقراطية راسخة. لكن الأحزاب تقاتلت على المناصب، وانقسمت بين اليسار والإسلاميين والطوائف. لم يصبر السياسيون على الحوار، ولم يتفقوا على دستور دائم. فكانت الأرض ممهدة لانقلاب نميري عام 1969.
نميري: الشعارات المتقلبة
رفع نميري شعارات يسارية واشتراكية، ثم تحالف مع الشيوعيين، ثم انقلب عليهم. بعد سنوات تحالف مع الغرب، ثم أعلن قوانين الشريعة عام 1983. هذه التحولات كانت دليلاً على غياب البصيرة: لم تكن رؤية متكاملة بل ردود أفعال. عهده شهد قمعاً، إعدامات سياسية، وحرباً أهلية طويلة. انتهى حكمه بانتفاضة أبريل 1985.
سنوات الانتقال الثانية (1985–1989)
مرة أخرى، حصل السودان على فرصة تاريخية. المجلس العسكري سلم السلطة لحكومة مدنية، لكن السياسيين عادوا إلى صراعاتهم. لم يُظهروا صبراً على بناء توافق، وفشلوا في إصلاح الاقتصاد. ومع الانقسامات، جاء انقلاب البشير عام 1989 ليغلق الباب أمام الديمقراطية.
البشير: الخراب الأكبر
حكم البشير ثلاثين عاماً رفع فيها شعار «المشروع الحضاري الإسلامي». لكنه ترك وراءه بلداً ممزقاً:
• حروب دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة.
• انفصال الجنوب عام 2011 وفقدان ثلث الأرض ومعظم النفط.
• فساد واسع، انهيار اقتصادي، عزلة دولية.
كانت تلك الفترة المثال الأوضح لغياب البصيرة: سلطة تبحث عن البقاء بأي ثمن ولو على حساب الوطن كله.
ثورة ديسمبر 2018 وما بعدها
حين خرج الشعب في ديسمبر 2018، كان شعاره «حرية، سلام، وعدالة». نجح في إسقاط البشير في أبريل 2019، لكن التحدي كان أكبر: كيف يُبنى نظام جديد بعد عقود من الاستبداد؟ القوى المدنية لم تصبر على بناء تحالف عريض، وانقسمت. أما الجيش، فتمسك بسلطته. ومع انقلاب 2021، ثم الحرب المدمرة في 2023 بين الجيش والدعم السريع، ضاع الحلم مجدداً.
أثر الفشل على المجتمع
هذا المسار لم يكن مجرد أحداث سياسية، بل ترك ندوباً غائرة على حياة الناس:
• التعليم تراجع، وصار آلاف الطلاب خارج المدارس.
• الصحة انهارت، والمستشفيات بلا أدوية أو تجهيزات.
• الاقتصاد انهار، وأصبح السوداني يعيش بين طوابير الخبز والوقود.
• المجتمع انقسم، وتفككت الثقة بين المواطن والدولة.
• الهجرة والنزوح تحولا إلى قدر: ملايين يعيشون في معسكرات أو في شتات موزع على كل قارات العالم.
الهوية والثقافة في زمن الأزمات
الفشل السياسي والعسكري لم يضرب فقط الاقتصاد والسياسة، بل أصاب الهوية الوطنية في عمقها. فالسوداني الذي كان يرى نفسه جزءاً من وطن واسع متعدد، بدأ يشعر أن الدولة لا تحميه ولا تمثله، فانسحب إلى هويات أصغر: القبيلة، الجهة، أو حتى المنفى. ومع تكرار الأزمات، ضعفت فكرة «الوطن الجامع»، وحلّت محلها هويات متشرذمة تبحث عن الأمان أكثر مما تبحث عن الانتماء.
الثقافة السودانية – بأدبها وأغانيها وفنونها – تحولت إلى ملاذ للوجدان الجمعي في مواجهة الانكسارات. الأغنية الوطنية صارت لسان حال الشعب في لحظات المقاومة؛ من أناشيد محمد وردي التي مجدت ثورة أكتوبر، إلى أغنيات مصطفى سيد أحمد التي عبّرت عن آلام المنفى والبحث عن العدالة، وصولاً إلى شعارات ديسمبر التي رددها الشباب في الشوارع وهم يواجهون الرصاص بصدور عارية. كان الفن بمثابة «ذاكرة بديلة» تحفظ الحلم حين خذلته السياسة.
لكن الثقافة، مهما كانت قوية، لم تستطع تعويض غياب مؤسسات الدولة. فالأغنية تحفز، والقصيدة تلهم، واللوحة تخلّد، لكنها لا تستطيع أن تحل مكان المدرسة والمستشفى والبرلمان. في لحظة الحرب، لا يجد المواطن سوى صوته الجماعي ليحتمي به، بينما تنهار مؤسسات الدولة من حوله.
إلى جانب ذلك، لعب الشتات السوداني دوراً محورياً في حمل الهوية والثقافة خارج الوطن. في القاهرة والدوحة ولندن وتورونتو، أسّس السودانيون مراكز ثقافية، وأقاموا معارض فنية، وأصدروا صحفاً ومجلات تحفظ الذاكرة الجمعية. لكن هذا الشتات أيضاً يعكس مأساة كبرى: أن الثقافة تُنتَج وتُمارَس بعيداً عن أرضها، وكأن الوطن نفسه صار منفى داخلياً وخارجياً.
لقد أثبتت الأزمات أن الهوية السودانية ليست مجرد شعار سياسي، بل كيان هش يحتاج إلى مؤسسات عادلة تحفظه. الثقافة قاومت، والفن عبر، لكن من دون دولة عادلة، ظل الإبداع يصرخ في فراغ. وهنا يتجلى بوضوح أن الأزمة ليست أزمة موارد ولا قدرات، بل أزمة قيادة افتقدت الصبر والبصيرة، فتركت المجتمع ممزقاً بين الانتماء والاغتراب.
مقارنة مع تجارب أخرى
غانا، التي استقلت في الفترة نفسها، عانت من الانقلابات، لكنها صبرت حتى ترسخت ديمقراطيتها. جنوب إفريقيا تجنبت حرباً أهلية شاملة ببصيرة مانديلا. السودان لم يمتلك قادة يجمعون بين الصبر والبصيرة، فظل يتعثر في نفس الحفرة.
الحرب الأخيرة: تكثيف المأساة
حرب أبريل 2023 بين الجيش والدعم السريع كانت ذروة هذا الفشل. الخرطوم تحولت إلى أنقاض، ملايين نزحوا، الاقتصاد انهار أكثر، والمجتمع تفتت. الحرب كشفت أن غياب الصبر والبصيرة لم يعد يهدد الديمقراطية فقط، بل صار يهدد بقاء الدولة نفسها.
نحو مستقبل مختلف
لا خلاص إلا ببناء مشروع وطني جديد، يقوم على:
1. دستور دائم يضمن التداول السلمي.
2. جيش قومي بعيد عن السياسة.
3. اقتصاد يعتمد على الزراعة والصناعة الوطنية.
4. تعليم حديث يغرس قيم المواطنة والابتكار.
5. مصالحة وطنية واسعة.
تاريخ السودان منذ الاستقلال يشبه قافلة تمشي في صحراء مترامية. السياسيون يقودونها أحياناً بعجلة، فيضلون الطريق. والعسكريون يقودونها أحياناً أخرى بلا بصيرة، فيدخلونها متاهات الدم. وفي كل مرة، تعود القافلة إلى نقطة البداية.
لكن الشعب لم يفقد الأمل. السودانيون أثبتوا أنهم قادرون على التضحية، وأنهم يمتلكون صبراً استثنائياً وبصيرة شعبية. من ثورة أكتوبر إلى ديسمبر، ظلوا يرفعون شعار الحرية والسلام والعدالة. ما ينقص هو قيادة ترتقي إلى مستوى هذه التضحيات.
النيل ما زال يجري، والأرض ما زالت خصبة، والذاكرة الشعبية ما زالت غنية بأغاني المقاومة والحنين. إذا تحولت العبارة التي لخّصت الماضي – «ماشين بلا صبر ولا بصيرة» – إلى شعار للمستقبل: «نمشي بصبر وبصيرة»، فسيكون بمقدور السودان أن يخرج من صحرائه الطويلة، ويصنع فجراً جديداً يليق بتضحيات شعبه.
شارك المقال