مندوب المبيعات بين الضمير والقانون

120
محمد عبدالقادر

محمد عبدالقادر محمد أحمد

كاتب صحفي

• في الأسواق والمكاتب ومعارض السيارات وشركات الاتصالات تتكرر المشاهد ذاتها بلا اختلاف كبير. مندوب مبيعات يبتسم حتى تظنه ملاك رحمة، يصف لك المنتج بألوان قوس قزح، يقرأ لك الشروط كما تُقرأ آيات الرحمة، ثم يختم العرض بجملة «هذه فرصة لن تتكرر». وحين توقع وتغادر تبدأ رحلة اكتشاف الفروق بين الكلام والواقع، بين السعر المعلن والتكلفة الفعلية، بين الخدمة الموعودة وما يصلك. هكذا تتحول مهنة يفترض فيها أن تكون صلة ثقة بين المنتج والمستهلك إلى حقل ألغام من الخدع الصغيرة التي تكبر مع الزمن حتى تصير نمطًا سائدًا.

ليست المشكلة في مهنة المبيعات نفسها، فالتبادل أصل في الحياة الاقتصادية. المشكلة في الطريقة التي يُمارَس بها العمل عندما يختلط الحافز بالواجب وتعلو العمولة على صوت الضمير. هل هذا مجرد «شطارة» أم احتيال مقنّن؟ وهل يكفي لمندوب المبيعات أن يحصل على توقيع العميل أسفل العقد ليُسكت ضميره ويبرئ نفسه أمام القانون؟ عند هذه النقطة بالذات تبدأ منطقة الظل بين الأخلاق والقانون.

من الناحية العملية، القانون بصفته قواعد ملزمة لا يعاقب على كل تضليل، إنما يعاقب على الاحتيال الصريح، على الكذب المادي الذي يغيّر جوهر العقد، لكنه لا يمسك بمندوب المبيعات الذي يغالي في مزاياه أو يُخفي عيوبًا في سطر مهمل، ولا يطارد الشركات التي تربط «خصمًا استثنائيًا» بخدمات إضافية لا يحتاجها العميل، ولا يعتبر «موعدًا نهائيًا وهميًا» جريمة، إلا إذا بلغ حد الغش. وهنا تكمن الخطورة، فحين يصبح كل ما دون الاحتيال الصريح مباحًا، يصبح السوق ساحة مفتوحة لـ»فن الخداع المشروع»، ويضيع المعنى الأصلي للثقة.

ولكي نكون منصفين، فالمسؤولية لا تقع على مندوب المبيعات وحده، فكثير من الشركات لا تهتم بالطريقة بقدر ما تهتم بالنتيجة، وكأنها تقول لمندوبيها «اتصرفوا» بمطلق الكلمة طالما أن المبيعات تتحقق. هذا الضغط غير المعلن، يحوّل المندوب من وسيط ثقة إلى أداة تصريف، ويغريه باستخدام كل ما يستطيع من إغراء أو إخفاء لتحقيق الهدف، فتغدو المؤسسة نفسها شريكًا في تقويض الشفافية، ثم تتنصل من المسؤولية عند وقوع الضرر. ومع ذلك يبقى أيضًا من الظلم أن نصور مندوب المبيعات شيطانًا كامل الأوصاف، فهو غالبًا ليس موظفًا يتقاضى راتبه آخر الشهر، بل يعيش على العمولة وحدها، وهي حقه المشروع الذي يكافئه على الجهد والوقت والضغط النفسي الذي يتحمله ليغلق الصفقة. القانون يعترف بهذا الحق ويشرّع له، لكنه في الوقت نفسه لا يعفيه من واجب الشفافية، ولا يسمح له بأن يحقق عمولته على حساب خداع المشتري أو تضليله، وهنا يقف الفقه القانوني بين تعارض حرية الشركة ومندوبيها في أن يسوّقوا ويكسبوا، وحق المستهلك في أن يتعاقد وهو عالم بالحقيقة كاملة. 

فلسفة التشريع المعاصر تحاول أن تضع قاعدة بسيطة، وهي أن كل ما يجعل العميل يوافق على صفقة تحت وهم أو نقص معلومة جوهرية يبطل رضاه، وبالتالي يبطل العقد، أو يرتب تعويضًا، بينما كل ما هو مجرد حماسة في العرض، أو بيان صادق للميزات، يبقى في دائرة المباح. بهذا المعيار فقط يمكن أن تتوازن كفتا الميزان، فيبقى لمندوب المبيعات حقه في العمولة، وللمشتري حقه في الحماية. لكن كل من عمل في المبيعات يعرف أن سحر المهنة في الكلام الشفهي، وفي «اللسان الحلو» الذي لا يُسجَّل ولا يُوثّق، فكيف سيثبت القانون وهمًا لم يُكتب على ورق، أو نقص معلومة لم تُذكر في عقد، بل قيلت أو سكت عنها في لحظة إقناع؟ من يحمي الزبون من حماس مندوب المبيعات؟ ومن يحمي المندوب من تهمة التدليس وهو يعيش على العمولة؟ هذا هو التحدي الحقيقي أمام التشريع، وفي أن يجد صيغة تحمي الحقين معًا دون أن يقتل المهنة، أو يجرّم العمولة المشروعة.

القضية إذن ليست في الشيطنة، أو في إطلاق يد السوق بلا ضابط، بل في إعادة صياغة العلاقة بين الحق والحافز، بين النص القانوني وروح العدالة. وفي الدول التي فهمت ذلك، تجد قوانين «حماية المستهلك» مليئة بنصوص عن وضوح العروض، والإفصاح الكامل عن الشروط وحق التراجع عن الشراء، وتجد هيئات رقابية تلاحق الدعاية المضللة، وتفرض غرامات على من يستخدم ندرة وهمية أو خصومات زائفة. هكذا فقط تصبح المبيعات مهنة أخلاقية، يصبح فيها إغلاق الصفقة نتيجة طبيعية لخدمة حقيقية لا ثمرة لتمثيلية.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *