جامعة الخرطوم
Picture of د. أسامة خليل

د. أسامة خليل

• ويذكر البروفسور عبدالله الطيب في الكتاب نفسه، المفهوم الفاسد من تحصيل الشهادات في جامعاتنا مقارنة بمثيلاتها في أوربا حيث يرى أن الخريج «يقول لك تخرجت بدرجة جيد أو جيد جداً، وهو مقتنع عند نفسه بأنه قد جمع علوم الأولين والآخرين. ثم لا يكون بينه بعد هذا وبين الاستمرار في التحصيل من نسبٍ أو صهرٍ. ولعله أن يروم الإنتاج وبالتالي إن كان ذا طموحٍ أدبي أو نحوه، فلا يزيد على أن يجتر ما درسه من مدرسين لعلهم هم أيضاً لخصوها من الكتب دون تمحيص أو يجنحوا إلى الأصالة». 

وهذا الأمر يلاحظ بصورة واضحة في الرسائل العلمية المُعدة لنيل درجة الماجستير أو الدكتوراه الذي ينحـو أغلب الباحثين فيهما إلى تلخيص وتجميع الأفكار الموجودة في الدراسات السابقة دون تمحيص ودون إضافة نوعية في التخصص المعني، إلى جانب التخلف عن مواكبة ما استحدث من تطور في مجالات العلوم المختلفة، وليس غريباً أن تتراجع الجامعات السودانية عن مواكبة العصر لغياب الرسالة الفعلية -إلى حدٍ كبير- والمتمثلة في ترقية البحث العلمي ورفد المجتمع بكوادر مؤهلة مهنياً ونظرياً. 

ومع تسليمنا جدلاً بأهمية التحديث لمواكبة العصر فيما استجد من علوم ومعارف في التعليم قبل الجامعي إلا أن هناك أهداف وموجهات عامة يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند وضع المناهج من خلال استصحاب هذا التنوع حتى يأتي المنهج متكاملاً وفق مشاركة نوعية لأساطين التربية وعلم النفس والاجتماع وغيرها من التخصصات  المصاحبة. ولذلك لابد لواضع المنهج من مراعاة التنوع الثقافي والاجتماعي للمجموعات البشرية على امتداد الوطن وما يستصحب ذلك من تنوع فكري وحضاري يجب أن تمثل بصورة أو أخرى من خلال المنهج المدرسي، وعادة هذه المناهج عندما توضع تراعى فيها جوانب كثيرة، لتجمع ما هو أوفق للناس على اختلاف توجهاتهم في وطن يتعايش الجميع تحت مظلته. 

إضافة إلى ذلك نرى افتقار منهج التاريخ والجغرافية إلى النظرة الكلية لاستيعاب البيئة السودانية أرضاً وشعباً في قطرٍ يمتد مشهده الحضاري إلى أكثر من عشرة قرون قبل الميلاد، ويجب أن ننمي لدى طالب العلم اعتداده بوطنه من خلال معرفته بقدم وعراقة الحضارة السودانية. أما المواد العلمية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء فحدث ولا حرج! مع الأخذ في الاعتبار ضمور المعاهد المهنية مما أفقدها الدور الفاعل في تخريج الكوادر الفنية الوسيطة التي تسهم بقدر كبير في عملية التنمية وحاجة البلاد إليهم. 

وتقف اللغة العربية في مقدمة مطلوبات الدراسة البحثية ولا غنى عنها لأصحاب التخصصات المختلفة من حيث التعبير اللغوي السليم ومضامين الهوية المعبرة عنها مما جعلها عرضة لسهام المستشرقين وتوابعهم من النخب المستلبة فكرياً، والتي فقدت دورها القيادي كلغة صفوة عندما كانت غرناطة وطليطلة وبلد الوليد مراكز التقدم العلمي. وهذا لا يقدح من الاهتمام باللغة الإنجليزية باعتبارها جسراً للتواصل البحثي والأكاديمي مع المؤسسات الموازية لتلك التخصصات في عصرنا الحاضر بعد أن تخلفنا عن الركب.   

كما أن المناهج المدرسية ظلت تتعرض للتنقيح بصورة مستمرة بسبب أخطاء الصياغة اللُغوية، والحقائق والمفاهيم العلمية والتاريخية، مما أفقد الطالب ثقته بالمنهج المدرسي ولما له من آثار نفسية تنعكس بصورة مباشرة على تحصيله الأكاديمي واستيعابه للمنهج إذا عُلمنا أن بعض المواد يحصل عليها في منتصف العام أو يتم اكتشاف الأخطاء الواردة في المادة بعد نهاية العام الدراسي، ومازال العرض مستمراً!.

إضافة إلى الحشو غير المفيد في المواد الأساسية والمواد الإضافية التي يجدها الطالب بصورة مبسوطة في التخصصات الجامعية، كما أن إخراج المرحلة المتوسطة من السلم التعليمي، إلى جانب إلغاء سنة دراسية من المرحلة الأولية أفرزت الكثير من العيوب على مستوى التحصيل العلمي والسلوك التربوي؛ لأن الجمع بين طفل في السادس من عمره مع نظيره في بداية المرحلة الحرجة ضمن مرحلة دراسية واحدة كالجمع بين البيضة والحجر والحال يغني عن الاستدلال!. 

ومما يزيد الأمر ضغثاً على أبالة أن تقلبات السياسات التربوية أخرجت تلك المناهج من مقاصدها إلى تحقيق أهداف آنية من قبل الإدارات التنفيذية للمؤسسات التعليمية أدت بدورها إلى انهيار البنية الفكرية، والاستلاب الثقافي لهذا الجيل الذي يفتقر إلى البوصلة الصحيحة التي توجه سلوكه الاجتماعي وتعمِّق انتماءه الوطني بصورة لا تخطئها عين المتابع، وهي محصلة طبيعية لقصور المؤسسات التعليمية في القيام بدورها على الوجه الأمثل، تلبية لتطلعات الجيل الحالي في عصر المتغيرات، والخروج عن المألوف الذي ينتظم العالم من حولنا في ظل التطور التقني الذي تسهم فيه الوسائط الإعلامية بصورة سلبية -في بعض جوانبه- لترسيخ المفاهيم التي لا تتسق مع موروثاتنا وواقعنا بتجلياته المختلفة.

أتمنى أن تلتفت المؤسسات التعليمية إلى توصيات المؤتمرات والندوات التي عقدت في الفترات السابقة لمناقشة قضايا التعليم وأيضاً الاستفادة من خبرات الشعوب الأخرى التراكمية؛ فالنهضة الأوربية والتقدم في مجالات العلوم والفكر الإنساني ماهي إلا ثمرة لمنجزات الحضارة الإسلامية في مرحلة صعودها. وأذكر في هذا المنحى دراسة أمريكية  قامت بها»»  Institute of Museums and Library Services»   في العام 2009م، حول كيفية إتقان الطلاب لمهارات التفكير الناقد وحل المشكلات ومهارة الاتصال والتعاون مع الآخرين من خلال المناهج المدرسية الرئيسية في الألفية الحالية ومدى إسهام تلك المهارات المكتسبة في رفد طالب الدراسات العليا المجتمع ببحوث متميزة وذات أهمية، وهذه الدراسة موجودة على الشبكة العنكبوتية باللغة الإنجليزية. فالعالم قد أصبح قرية واحدة مع ثورة الاتصالات والفضاءات المفتوحة، وبقي نصيبنا من ذلك التواصل الظاهري مع الآخر، والاتصال بقشور الحضارة بعيداً عن الرؤية الحقيقية للواقع؛ نتيجة لغياب العقلية المفكرة عن الفعل المنتج للتنمية، والتخطيط الاستراتيجي، لتحل بديلاً عنها العقلية النمطية التي سادت المؤسسات التعليمية والمراكز البحثية بصورة عميقة. وهذا كله نتاج طبيعي لإفرازات واقع مأزوم ألقى بظلاله السالبة على العملية التعليمية ولا يتأتى الخروج من هذا الوضع إلا من خلال التخطيط التربوي السليم وفقاً لمتطلبات التنمية، وربط المجال التعليمي بالتربية، والأسرة، والبيئة المحيطة.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *