مقارنة تنظيم وإنتاج وصادرات الذهب: السودان مقابل ثلاث دول إفريقية رائدة
Admin 4 أكتوبر، 2025 23
محمد كمير
خبير اقتصادي
• تُعَدّ تجارة وتصدير الذهب أحد أعمدة الاقتصاد في العديد من الدول الإفريقية، غير أنّ القوانين والتنظيمات تختلف من بلدٍ إلى آخر، مما ينعكس على حجم الإنتاج والصادرات وترتيب هذه الدول في السوق العالمي. شهدت الدول الإفريقية تغيّرات كبيرة في إنتاج الذهب خلال العقد الأخير؛ تُقدّر بيانات عام 2024 أن إنتاج غانا بلغ نحو 126 إلى 130 طناً من الذهب الخام، ما جعلها تتصدّر القارة، بينما استقر إنتاج جنوب أفريقيا تاريخياً لكنه تراجع مقارنة بالعقود الماضية إلى نحو 100–104 أطنان سنوياً في 2023–2024. أما أنغولا فإنتاجها من الذهب أقل بكثير من غانا وجنوب أفريقيا، لكنها أعدت إطاراً تشريعياً وتحوّلات مؤسساتية تهدف إلى تنشيط قطاع التعدين. السودان يمتلك احتياطيات ذهبية معتبرة، وإمكانات إنتاجية كبيرة، لكنه يعاني من تفاوت في الأرقام الرسمية بسبب التعدين الأهلي والتهريب وضعف مؤسسات الرقابة، فبينما تُسجل أرقام رسمية متباينة يُشير بعضها إلى إنتاج مزدوج أو أعلى من التقارير الرسمية تبعاً لفترات مختلفة، يبقى الواقع أن كثيراً من الذهب يخرج عبر قنوات غير رسمية، مما يقلل من فوائد القطاع للاقتصاد الوطني.
في غانا تم بناء سلسلة مؤسساتية تقنية وقانونية توفّر نموذج عمل واضح لمنظومة تصدير الذهب: قانون المعادن والتعدين يعطي صلاحيات واضحة للجهات المانحة للتراخيص، ووجود كيان مركزي مثل شركة تسويق المعادن الثمينة (PMMC) وكيانات حكومية متخصصة في الفحص (assay) يجعل كل شحنة مرئية ومقاسة ومؤمنة على مستوى دولة، وإجراءات إلزامية مثل إشعار الجهة المركزية قبل التصدير بفترة محددة، وإصدار تقارير تحليل دقيقة، وتوريد معلومات لبنك البلاد والجهات الضريبية، كل ذلك حدّ من التعاملات الظليّة، وعزّز الثقة لدى المشترين الخارجيين. في جنوب أفريقيا وفّر القانون الخاص بالمعادن النفيسة آليات صارمة للترخيص، ومراقبة الصرف وإجراءات مكافحة غسل الأموال تجعل أي متعامل رسمي ملزماً بسجلات مفصّلة وتقارير منتظمة، ما حمى السوق الرسمي، ومكّن الدولة من تحصيل إيرادات واضحة. أنغولا، رغم أنها لم تتصدر إنتاج الذهب، فإن قانون التعدين وقوانين الاستثمار، واشتراطات المحتوى المحلي، وتسهيلات الإعفاءات الجمركية، والخطوات التي اتخذتها الحكومة لبناء نوافذ استثمارية واضحة وسجلات مركزية، تُظهر كيف يمكن للسياسات المهيكلة أن تحول الإمكانات إلى إنتاج قابل للتداول والتصدير رسمياً، بشرط وجود تنفيذ فعّال ورقابة جيدة.
في السودان، الإطار النظري لقانون الثروة المعدنية والتعدين موجود، لكن التطبيق والقدرة المؤسسية والشفافية أقلّ من المستويات المطلوبة، فوجود متطلبات لبيع جزء من حصائل الذهب عبر قنوات مصرفية أو للبنك المركزي، لا يكفي إن لم يصاحبه نظام فني كامل، لقياس وتوثيق وسلسلة تبع traced chain-of-custody التحديات الأساسية تتلخّص في التشتت الكبير للمنقبين الحرفيين، ضعف البنية التحتية للفحص والتكرير المحلي، ضعف إجراءات إصدار التراخيص ومتابعتها، انتشار وسطاء غير منظمين، نطاق واسع من التهريب عبر الحدود، والتداخُل بين مصالح سياسية واقتصادية محلية يجعل فرض قواعد صارمة أمراً صعباً. لذلك، على الرغم من موارد السودان، فإن الفشل في تحويل الإنتاج الحقيقي إلى عوائد رسمية يعود إلى قصور في حوكمة القطاع، وليس نقصاً في المعدن نفسه.
لكي يَبدأ السودان رحلة التحول، ويصل إلى مستوى الدول التي نظمّت قطاعها، يحتاج نهجاً جامعاً يجمع بين التشريع، والبُنى المؤسسية، والجانب التقني، والاجتماعي.
أولاً، ينبغي تحديث التشريعات بشكل واضح ومحدد: قانون معاصر للثروة المعدنية، يحدّد تعريفات واضحة للمهن المختلفة (منقبون أهليون، شركات صغيرة، شركات كبرى، مساعدون، وسطاء)، وأنظمة تراخيص شفافة قابلة للمراقبة، ونصوص واضحة لمسؤوليات كل جهة حكومية (وزارة التعدين/ المعادن، البنك المركزي، الجمارك، سلطة البيئة). كما يجب تضمين أحكام ملزمة لسلاسل التوريد (chain-of-custody) تتطلب ختم العيّنات، إجراءات فحص معتمدة، وسجل وطني إلكتروني لكل كمية من الذهب منذ استخلاصها وحتى التصدير أو التسويق المحلي. من دون تعديل تشريعي يجعل التوثيق إلزامياً، ويحدد عقوبات رادعة للمخالفات، سيبقى التهريب والتداول الأسود سائداً.
ثانياً، إنشاء مؤسسة مركزية متخصّصة ومستقلة لمعالجة وشراء وفحص الذهب (نموذج PMMC أو GoldBod) ضروري.
هذه الهيئة يجب أن تكون فنياً قادرة على إجراء assays بمعايير دولية، إصدار شهادات نقاء، التعامل مباشرة مع البنوك لتسوية المدفوعات، وأن تكون مشروعية عملها محصنة عن التدخّلات السياسية، مع رقابة برلمانية مدنية. وجود مصفاة محلية أو شبكة معتمدة من معامل التكرير، يقلّل اعتماد السودان على مصافٍ خارجية، ويزيد القيمة المضافة محلياً. هذه الهيئة يمكن أن تبدأ كمشروع مشترك بين الدولة والقطاع الخاص المحلي/ الدولي مع شروط شفافة للحوكمة.
ثالثاً: تنظيم وتسجيل المعدنيين الأهليين مهم للغاية، وذو أثر اجتماعي واقتصادي. يجب إطلاق برامج تهيئة رسمية لتسجيل المعدنيين، وإصدار تراخيص سعرية رمزية ميسّرة، وربطهم بمراكز فحص متنقلة، وبرامج تدريب تقنية على الممارسات المسؤولة والبيئية، وتقديم حوافز مالية (قروض مصرفية، اشتراكات تأمينية، أسعار شراء ضمانية لفترات انتقالية)، تشجّعهم على الانخراط في القنوات الرسمية بدلاً من السوق الموازي.
تجربة دول نجحت في إدماج المعدنيين الأهليين أظهرت أن الحوافز المالية والتقنية أفضل بكثير من العقوبات وحدها.
رابعاً: نظام ضريبي وحوافز واضحة. يجب تصميم ضريبة تصدير أو رسم على الذهب تكون عادلة وشفافة، مع استثناءات تحفيزية لفترات استثمارية (مثل إعفاءات مؤقتة للمصافي المحلية أو للمنتجين الذين يستثمرون في سلاسل القيمة). بدلاً من فرض رسوم تعقيدية تُحفّز التهريب، يَستحسن تفعيل حوافز تشجع دخول المنتجين إلى النظام الرسمي (تخفيضات ضريبية تدريجية عند الالتزام بالسجلات، دعم لتغطية تكاليف الفحص المبدئي، تسهيلات تحويل العملات للعوائد المصدّرة).
خامساً: ربط نظام التصدير بالبنك المركزي وبالقطاع المصرفي بشكل واضح وآمن. تجربتا غانا وجنوب أفريقيا توضحان أهمية ربط تقارير الفحص والتصدير بالبنوك، لتسوية المدفوعات، والتحقق من مصداقية الشحنات، وهو ما يقلل قدرات المهربين على التعامل بالعملة الصعبة خارج القنوات الرسمية. البنك المركزي السوداني يحتاج إلى آلية محدّدة لاستلام حصائل التصدير وتحوّلها بما يحافظ على احتياطيات النقد الأجنبي، ويُسهل للمصدرين استلام حصائلهم الشرعية.
سادساً: شفافية ومتابعة فنية واعتماد نظم تتبع حديثة. بناء قاعدة بيانات وطنية رقمية لسجلات التصاريح، سجلات الشحن، تقارير الفحوصات، سجلات الشركات والمصافي، ونشر ملخّصات دورية متاحة للعامة، سيقلّل الفساد، ويزيد ثقة المستثمرين. يمكن الاستفادة تقنياً من حلول تتبع مُبسطة، مثل ملصقات مراقبة، تطبيقات الهاتف لتسجيل مواقع الحفر والتسليم، أو حتى استكشاف حلول بلوكتشين لتأمين السجلات حيثما أمكن، على ألا تُعقّد الإجراءات للمنتجيين والمصدرين الصغار.
سابعاً: تفعيل قدرات إنفاذ القانون والتعاون الإقليمي. يجب تجهيز الجمارك وحدود الدولة بأدوات كشف متقدمة وتدريب مكثف، والعمل مع دول الجوار للحد من التهريب، عبر تبادل معلومات وأنشطة مراقبة مشتركة. كما يجب تعديل العقوبات لتكون رادعة، وتشمل مصادرة وتوقيفات إدارية ومالية.
ثامناً: حماية البيئة والمجتمعات المحلية. أي برنامج إصلاحي للذهب، يجب أن يواكب سياسات حماية بيئية وصحية للمناطق التعدينية، ويؤسس لصيغ تعويض ومشاركة المجتمعات المحلية في المنافع (مثل تخصيص نسب من إيرادات الضرائب لمشروعات تنموية محلية)، لأن التعدين غير المنظم يسبب أضراراً اجتماعية وبيئية طويلة الأمد تُقوّض الاستدامة.
تاسعاً: بناء قدرات مؤسسية وفنية عبر شراكات دولية. السودان يمكنه استيراد خبرات تقنية وقانونية عبر شراكات مع منظمات دولية، ومؤسسات فنية، ومكاتب استشارية عملت في غانا أو جنوب أفريقيا أو أنغولا، والاستفادة من برامج تمويل تقني (مؤسسات التنمية، البنوك الدولية، بيوت تمويل مانحة) لتمويل تجهيز معامل الفحص، تدريب الكوادر، وإنشاء البنية الرقمية. الشفافية مع المانحين والالتزام بمعايير دولية (مثل توجيهات OECD للمسؤولية في سلاسل المعادن أو معايير مكافحة غسيل الأموال AML/CFT) سيزيد من ثقة الأسواق الخارجية.
عاشراً: خارطة طريق عملية لمرحلة الانتقال. يمكن للسودان أن يبدأ بخطوات عملية قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد: على المدى القصير (0–6 أشهر)، إصدار تعليمات مؤقتة لتسجيل المنشآت القائمة، إنشاء وحدة تنسيق وطنية للذهب، تضم ممثلين عن الجهات المعنية، وإطلاق حملة تسجيل للمعدنين الأهليين، وتفعيل مراكز فحص متنقلة. على المدى المتوسط (6–24 شهراً) صياغة وتعديل قوانين واضحة، تأسيس هيئة مركزية للفحص والشراء، بناء أولى المصافي المحلية أو عقد شراكات للتكرير، وفتح قنوات مصرفية ميسرة للمصدرين القانونيين. على المدى الطويل (2–5 سنوات) إكمال البنية التشريعية، إرساء بورصة أو سوق مرجعي للذهب داخل السودان، وإدماج السلسلة بأكملها بما يضم مصافي وطنية وشبكات توزيع رسمية وبرامج تنموية للمجتمعات المتأثرة.
أخيراً، الدرس العملي من تجارب غانا وجنوب أفريقيا وأنغولا، أن التشريع وحده لا يكفي دون تنفيذ مستقل وشفاف، وأن إشراك الفاعلين المحليين-من معدنين أهليين إلى شركات ومجتمعات-مع طرق تشجيع مالية وتقنية، هو السبيل لتقليل التهريب وزيادة العوائد الوطنية. إذا نفّذ السودان حزمة متكاملة من التشريعات، إنشاء مؤسسة مركزية فنية، برامج تسجيل وحوافز للحرفيين، ربط مصرفي واضح، وتدابير إنفاذ شفافة، فبإمكانه خلال سنوات قليلة أن يحوِّل قطاع الذهب من اقتصادٍ ظِلّي ومبعثر إلى مصدر ريعٍ وطني مستدام، يرفع من إيرادات الدولة، ويحسّن مستوى حياة آلاف الأسر.
شارك المقال