معايير الازدواجية في عالم اليوم

13
دكتور طارق عشيري

د. طارق عشيري

أستاذ العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية في الجامعات السودانية

• في عالم اليوم، أصبحت الازدواجية سمة واضحة في العلاقات الدولية، والسياسات، وحتى في المواقف الأخلاقية والاجتماعية. فالحديث عن العدالة وحقوق الإنسان مثلاً يعلو في المنابر عندما يخدم مصالح الدول الكبرى، بينما يصمت تماماً حين يكون الضحية شعباً ضعيفاً أو دولة نامية لا تملك أدوات النفوذ.

نرى هذه الازدواجية في التعامل مع الحروب والنزاعات: فحين تتعرض دولة أوروبية للهجوم، يتسابق العالم لإدانة المعتدي وتقديم الدعم، أما عندما تُقصف مدن في إفريقيا، أو يُهجَّر الأبرياء في آسيا، أو يُعاقَب شعب بأكمله كما في السودان، تتحول المواقف إلى صمتٍ أو تبريرٍ أو دعوةٍ «لضبط النفس».

حتى في مجال الإعلام، الازدواجية واضحة: تُصوَّر بعض الأحداث بعيون إنسانية مؤثرة، بينما يُتجاهل أو يُحرّف الآخر. ومثل ذلك في الاقتصاد، حيث تُفرض العقوبات على بعض الدول تحت شعار الديمقراطية، بينما يغضّ الطرف عن أنظمةٍ أخرى أكثر قمعاً لكنها تحمي مصالح القوى الكبرى.

إن خطورة الازدواجية لا تكمن فقط في ظلم الشعوب، بل في هدم الثقة في النظام العالمي، وإضعاف القيم التي يُفترض أن تكون مشتركة بين البشر. فحين يشعر الناس أن العدالة انتقائية، يفقد العالم اتزانه الأخلاقي، وتُفتح الأبواب أمام الفوضى.

لذلك، فإن المطلوب اليوم هو توحيد المعايير الإنسانية بعيداً عن المصالح الضيقة، وأن يُقاس الحق والباطل بموازين القيم لا بالقوة. فبدون عدالة حقيقية، لن يعرف العالم سلاماً ولا استقراراً.

في زمنٍ يفترض أنه عصر الوعي والعولمة والتطور، لا تزال الازدواجية تتحكم في مواقف الدول والمؤسسات الدولية، وكأن العدالة أصبحت امتيازاً يُمنح للبعض ويُحرم منه آخرون. لقد تحولت المبادئ إلى شعارات تُرفع متى ما اقتضت المصلحة، وتُخفض حين تتعارض مع النفوذ أو المال أو السياسة.

حين نتأمل خريطة العالم اليوم، نجد أن الحق لا يُقاس بالقيم، بل بالمكان والزمان والفاعل. فعدوان ما يُوصف بأنه «تحرير»، وعدوان آخر يُعتبر «إرهاباً»، وضحية هنا تُرثى، وضحية هناك تُنسى. تلك هي معايير الازدواجية التي أضعفت الضمير الإنساني، وجعلت الشعوب تفقد ثقتها بالمنظومة الدولية التي كان يُفترض أن تحمي المظلومين.

في السودان مثلاً، ما يجري من حربٍ قاسية وتدميرٍ ممنهجٍ للبنية والإنسان، لم يحرّك الضمير العالمي إلا ببيانات باهتة ومواقف مترددة. فالعالم الذي يملأ الدنيا ضجيجاً عند أي أزمة في مكانٍ آخر، اكتفى بالصمت أمام مأساة شعبٍ يُذبح بصمتٍ أمام أنظار الجميع. وهذه المفارقة تجسّد أبشع صور الازدواجية في المواقف الدولية.

حتى في الاقتصاد والسياسة، تمارس الدول الكبرى ازدواجية المصالح: فالعقوبات تُفرض على من يخالفها سياسياً، بينما تُفتح الأبواب أمام أنظمةٍ تنتهك الحريات، ما دامت تضمن تدفق النفط أو توقيع الاتفاقات.

إن أخطر ما في هذه الازدواجية أنها لا تقتل العدالة فقط، بل تزرع في نفوس الشعوب اليأس وفقدان الإيمان بالقيم العالمية. وحين تنهار القيم، لا يبقى أمام الإنسان سوى طريق الفوضى أو المقاومة.

لقد آن الأوان لأن يتحرر العالم من هذه المعايير المزدوجة، وأن يُبنى نظامٌ عالمي جديد، يقيس الأمور بالحق لا بالمصلحة، وبالإنسان لا بالموقع الجغرافي. فالعدالة لا تتجزأ، والكرامة لا تُمنح انتقائياً، والضمير الإنساني لا يقبل اللون الواحد.

إن العالم الذي يقيس العدالة بميزان المصلحة، ويفاضل بين الدماء على أساس اللون والموقع، يفقد إنسانيته قبل أن يفقد مصداقيته. وما لم تتوحد المعايير وتُرفع القيم فوق السياسة، سيبقى الظلم سيد الموقف، وستظل الشعوب تدفع الثمن.

وفي السودان، حيث تُختبر إنسانية العالم كل يوم، تعلمنا التجارب أن الرهان الحقيقي ليس على منظماتٍ صامتة ولا عواصم متفرجة، بل على وعينا ووحدتنا وإيماننا بعدالة قضيتنا. فحين نصحح نحن ميزان الحق داخل وطننا، سنُجبر العالم يوماً على احترام مواقفنا، لأن القوة الحقيقية تولد من المبدأ لا من الصمت.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *