معادلة الصراع في السودان: هل تملك حكومة د. كامل إدريس أدوات التحول السياسي؟

52
فيصل محمد فضل المولى1

أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

• منذ اندلاع الحرب المفتوحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، يعيش السودان واحدة من أعقد مراحله التاريخية وأكثرها دموية، حيث يتشابك البعد العسكري مع الإنساني، والسياسي مع الاجتماعي، في معادلة معقدة لم تنجح حتى الآن أي مبادرة وطنية أو إقليمية في تفكيكها. الحرب التي اندلعت بسبب خلافات حول إعادة هيكلة المنظومة الأمنية، تحولت سريعًا إلى كارثة شاملة أنهكت الدولة، ودفعت الملايين نحو النزوح والجوع واليأس. وإذا كانت البلاد قد شهدت منذ الاستقلال تجارب انتقالية متكررة، إلا أن معظمها أخفق في تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي، نتيجة لعوامل بنيوية تتعلق بطبيعة النخب، وعسكرة السياسة، وتدخل القوى الإقليمية. هذه الخلفية تُلقي بظلالها على اللحظة الراهنة وتدفع للتساؤل عن جدوى أي محاولة جديدة دون معالجة جذرية للخلل الهيكلي في النظام السياسي السوداني. في هذا السياق المظلم، جاءت خطوة تشكيل «حكومة الأمل» برئاسة الدكتور كامل إدريس كمحاولة جادة من الجيش لاستعادة زمام المبادرة السياسية، وملء الفراغ الإداري في المناطق التي يسيطر عليها. لكن السؤال الجوهري يظل قائمًا: هل تملك هذه الحكومة الأدوات اللازمة لتحقيق تحول سياسي حقيقي؟ وهل ستكون بداية لخروج السودان من عنق الزجاجة، أم مجرد غطاء جديد لصراع قديم؟

أولاً: خلفية الصراع وتوازن القوى 

بدأت الحرب إثر خلاف جذري بين قيادة الجيش بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) حول دمج القوات شبه النظامية في الجيش الوطني. سرعان ما تحولت الأزمة إلى حرب شاملة امتدت إلى معظم ولايات السودان، مخلّفة دمارًا هائلًا في العاصمة الخرطوم وأجزاء واسعة من دارفور وكردفان.

رغم أن الجيش استعاد السيطرة على بعض المواقع الاستراتيجية في 2025، بما في ذلك المطار ومناطق حيوية من العاصمة، فإن قوات الدعم السريع ما زالت تسيطر على أجزاء واسعة من غرب البلاد، بما في ذلك دارفور، وتحتفظ بقوة نارية وشبكة دعم إقليمي يُعتقد أنها تشمل موارد من تهريب الذهب والأسلحة. كما يُعتقد أن بعض الدعم غير المباشر يأتي من أطراف خارجية تسعى لتعزيز نفوذها في القرن الإفريقي، مما يعقّد فرص الحل.

ثانيًا: حكومة الأمل – السياق والدوافع

شكّل تعيين الدكتور كامل إدريس لحظة مفصلية في المشهد السياسي، حيث قوبل بإشادات من بعض النخب القانونية والقطاعات الأكاديمية، بينما قابلته تيارات أخرى بالتحفظ، واعتبرت أنه جاء من طرف واحد يمثل سلطة الأمر الواقع. على الصعيد الشعبي، ساد الترقب أكثر من الحماس، في ظل تآكل الثقة في كل ما هو رسمي بعد سنوات من الحرب والخذلان. أما على الصعيد الإقليمي، فقد أبدت دول الجوار اهتمامًا حذرًا، لا سيما تلك التي تأثرت مباشرًة بأزمة النزوح، في حين لم تُبدِ بعض القوى الدولية موقفًا حاسمًا بعد، مكتفية ببيانات تشجيعية على لسان ممثلي الأمم المتحدة.  في 19 مايو 2025، أعلن الفريق البرهان تعيين الدكتور كامل إدريس، الخبير الدولي في القانون والملكية الفكرية والمدير السابق للويبو، رئيسًا للوزراء، لأول مرة منذ استقالة عبد الله حمدوك في يناير 2022. جاءت هذه الخطوة في سياق محاولة لبعث روح جديدة في المسار المدني بعد عامين من غياب الحكومة التنفيذية الفعلية.

اختار كامل إدريس في 31 مايو تشكيلة وزارية من 22 وزيرًا، معظمهم من التكنوقراط غير المنتمين للأحزاب التقليدية، فيما عُرف لاحقًا باسم «حكومة الأمل». وهدفت هذه الخطوة إلى تقديم بديل واقعي للمسارات المتوقفة مثل اتفاق جوبا وتجمّع الحرية والتغيير، عبر تجاوز التجاذبات السياسية والتركيز على تقديم الخدمات واستعادة الثقة. لكن هذا التوجه جوبه بانتقادات من قوى مدنية تعتبر أن أي حكومة لا تُبنى على توافق شامل ستكون مرفوضة شعبيًا.

ثالثًا: التحديات البنيوية التي تواجه الحكومة

1- الشرعية المنقوصة:  رغم الاعتراف الضمني بالحكومة من بعض الجهات الدولية كالأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، فإن قوى سياسية داخلية، بما فيها حركات مسلحة وقوى مدنية، تعتبر الحكومة امتدادًا لسلطة الأمر الواقع، لا تمثل الشعب ولا تستند إلى توافق وطني.

2- الانقسام العسكري:  وجود حكومتين فعليًا في البلاد – واحدة في مناطق سيطرة الجيش بقيادة كامل إدريس، وأخرى معلنة من قبل الدعم السريع في دارفور – يجعل من تنفيذ أي رؤية سياسية أمرًا صعبًا دون تسوية شاملة.

3- الوضع الإنساني الكارثي: بحسب بيانات الأمم المتحدة، أكثر من 13 مليون نازح داخل وخارج السودان، ونحو 25 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات عاجلة، مما يضع الحكومة تحت ضغط هائل دون موارد كافية.

4- ضعف مؤسسات الدولة:  بعد عامين من الانهيار المؤسساتي، تواجه الحكومة تحديًا في إعادة بناء الجهاز الإداري، خصوصًا في مجالات الصحة، التعليم، والمالية، وهي مؤسسات إما مدمّرة أو مخترقة سياسيًا.

5- غياب برنامج عمل واضح: لم تُعلن الحكومة حتى الآن عن خطة زمنية مفصلة أو جدول أولويات، مما يزيد من صعوبة تقييم أدائها ويُبقيها رهينة للضغوط اللحظية.

رابعًا: مكامن القوة وفرص التحول

1- الشخصية التوافقية لرئيس الوزراء: يتمتع د. كامل إدريس بصورة دولية محترمة، وسجلّ خالٍ من الفساد أو الاصطفاف السياسي، مما يمنحه فرصة لبناء جسور بين الأطراف.

2- دعم دولي أولي: تلقى تشكيل الحكومة دعمًا مشروطًا من الأمم المتحدة، مما قد يفتح الباب للحصول على دعم تقني وإنساني إذا أظهرت الحكومة جدية في التغيير.

3- خطاب إصلاحي مبكر: ركّز إدريس في خطاباته الأولى على ضرورة إيقاف الحرب، إعادة الخدمات، وحماية المدنيين، وهي نقاط تلقى صدى لدى قطاعات واسعة من السودانيين.

4- إمكانية التوسيع:  تم الحديث عن نية إشراك مزيد من الكفاءات الوطنية في الحكومة مستقبلاً، في حال تم التوصل إلى اتفاقيات مع الأطراف الأخرى، وهو مؤشر على مرونة سياسية محتملة.

5- الفراغ القيادي في المعارضة: حالة التشظي داخل قوى الثورة والمعارضة، قد تتيح للحكومة هامش تحرك أوسع لاستقطاب المستقلين والفاعلين المحليين.

خامسًا: تحليل السيناريوهات المستقبلية

1- السيناريو الإيجابي: إذا استطاعت حكومة الأمل أن تفرض حضورًا خدميًا حقيقيًا في مناطق الجيش، وتبني جسورًا مع القوى المدنية المعارضة، وتنجح في إطلاق عملية سلام عبر وسطاء إقليميين، فقد تتحول إلى نواة لحكومة انتقالية مقبولة دوليًا.

2- السيناريو السلبي: في حال استمرت الحرب، ورفضت الأطراف الأخرى الاعتراف بها، فإن الحكومة ستفقد شرعيتها تدريجيًا، وتتحول إلى إدارة محلية محدودة الصلاحية، مما يعمّق الانقسام الوطني.

3- السيناريو الرمادي: هو الأكثر احتمالًا في الأمد القصير، حيث تظل الحكومة قائمة في ظل الانقسام، مع أداء وظيفي محدود، دون أن تُحدث تحولًا نوعيًا.

سادسًا: ماذا تحتاج حكومة الأمل لتنجح؟

* وقف إطلاق نار فوري:  لا نجاح لأي حكومة في ظل استمرار الحرب، والحل يبدأ بتهدئة شاملة عبر وساطة موثوقة.

* مشروع وطني جامع: يجب تجاوز منطق المحاور وبناء رؤية وطنية تشمل الجميع، بما فيهم الحركات المسلحة.

* شفافية في إدارة الموارد: لا يمكن بناء ثقة بدون إصلاح شامل في ملف الذهب، التجارة، والمساعدات.

* استثمار دولي ممنهج: الدعم الإنساني وحده لا يكفي، ويجب ربطه بإعادة بناء التعليم، الصحة، والبنية التحتية.

* إعلام موجه وإيجابي:  يحتاج الشارع السوداني إلى خطاب إعلامي جديد، يتجاوز الإدانة ويركّز على الحلول، ويعزز ثقة المواطن في الدولة.

ختامًا، يمكن القول إن حكومة كامل إدريس تمثل نافذة صغيرة في جدار الحرب المسدود، لكنها ستظل عاجزة عن إحداث تحول سياسي حقيقي ما لم تُدعّم بإرادة وطنية جامعة ووقف شامل لإطلاق النار، وتحويل الاعتراف الدولي إلى التزام فعلي بإعادة بناء الدولة السودانية، لا فقط إدارة أزماتها. 

ولتحقيق ذلك، يجب أن تتخلى النخب عن خطاب التخوين، وتنتقل من معارك الشرعية إلى ورش إعادة الإعمار، ومن صراع المواقع إلى صناعة الرؤية. كما يتوجب على الحكومة أن تطرح برنامجًا عمليًا قصير المدى، يُعنى بإعادة الخدمات الأساسية، واستيعاب الشباب في مشاريع إنتاجية، وتفعيل اللامركزية الإدارية.

في هذا السياق، يبرز دور الجاليات السودانية في المهجر كقوة كامنة غير مستثمرة بعد. فهذه الجاليات، بخبراتها ورأس مالها وعلاقاتها، يمكن أن تسهم بفعالية في دعم التحول الديمقراطي، سواء من خلال نقل الخبرات، أو الضغط في دوائر القرار الدولية، أو تمويل المشاريع التنموية. كما أن للمجتمع المدني السوداني، رغم ما تعرض له من تهميش وتفكيك، دور محوري في ترسيخ ثقافة الحوار وبناء السلام المستدام.

السودان لا ينقصه الذكاء ولا الإمكانات، إنما ينقصه الاتفاق على حلم جامع يستحق التضحية لأجله.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *