مشاهد التهجير في مخيلة الشعراء

35
halfa
Picture of بقلم : د. أسامة خليل

بقلم : د. أسامة خليل

 • ظلت مشاهد التهجير والحنين إلى حلفا حاضرة في وجدان الشعب السوداني من خلال المفردة المغناة للشاعر سليمان عبدالجليل كلما أنشدهم الفنان حمد الريح رائعة الرحيل «حليل أرض الجزاير والمراكب والطنابير الترن..حليل ناس ليلى لما الليل يجن..ياغالية يا ثمرة فؤادي الليلة ما عاد المراكب شرقن ..والقمري فوق نخل الفريق فاقد الأهل.. يبكي ويحن».

 وحينما ينشد لحظات الوداع: 

نحب النيل وشتلاتو..نحب نخلا يحت للناس تميراتو 

ولما رحلتو يا ناس آمنة..سيد الوجعة ما عارفين حكاياتو 

  وعندما يتغنى ب»الوصية» للحبيبة التي غادرت حلفا دون وداعه استحياء من لحظات الفراق والوداع المر فيعاتبها على ذلك: 

السواقي النايحة نص الليل 

حنين الدنيا ممزوج في بكاها 

زي طيورا في الغصون 

محتارة وبتفتش جناها 

الديار والناس بتسأل عن صبية 

فارقت حلتنا زي طيرا غريب 

سافر عشية 

أوع ليل الغربة ينسيك

ريحة الطين في جروفنا 

والدعاش والغيم رزازا في 

العصير بالفرح 

بلل كتوفنا 

وجينا راجعين في المغيرب 

للديار لا حد نشوفو ولا يشوفنا 

   فكانت تلك القصائد المغناة بمثابة إلياذة النوبيين-أهل أقدم حضارة على وجه الأرض- التي تؤرخ ملحمة الرحيل وذكريات مدينة وادي حلفا في العقل الجمعي لأهلها. 

  ولهذا نجد التوقف عند مدينة حلفا كان توقفا مربوطا بحالة المدينة وغرقها لا بالحالة العاطفية المسكون بها صاحب التجربة، فالشاعر محيي الدين فارس عندما تحدث عن مدينة حلفا في قصيدته «أغنية نوبية»، كان وقفته تصويرا دقيقا لحالة غرق المدينة التاريخية شيئا فشيئا 

حتى ابتلعها النهر العظيم فلم تبق من معالمها إلا تلك المئذنة التي ظلت متشبثة بالحياة وتصر على البقاء، لتكون شاهدة على وقائع الأحداث التي ألمت بحلفا فصارت مدينة من الذكريات الحزينة: 

يتأملون على محطات الدجى 

شرفات نخل غارق. 

ورقاب أبنية

.. ومئذنة تصر على البقاء 

ومدينة من ذكريات. كان مغربها الحزين 

… بلا نهاية 

وتلك الصورة الحزينةالقاتمة للمدينةبعد أن اندثرت معالمها، فظلت برازخ الأمواج

توصد أبواب الأمل والرجاء بعد أن حالت بينهم جدر الزمان:

برازخ الأمواج.. توصد كل أبواب الرجاء 

جدر من الأزمان تفصلنا 

تذيب ملامح الأحجار..

تبعدنا وقد عز اللقاء 

أواه يا وطن العصافير الجميلة 

وصارت حلفا مثل الحسناء التي وئدت في شبابها كما صوَّرها الشاعر ميرغني ديشاب: 

فخريدة وئدت فابكت أهلها 

جزعا فكيف على صباها توأد 

  ويقف الشاعر علي صالح داؤود في قصيدته «همسة قلب حائر»، على حلفا الرحبة، ليذكر ذاك الإرث التليد لمدينة حلفا التي يصفها بأنها كانت مهدا للحضارة السودانية وشهابا للغزاة، وهي التي تمنح ظلها لكل من يود أن يستظل بها لما فيها من رغد العيش وجمال الطبيعة الخلاب: 

أوما كنت للحضارة مهدا

     ومنارا لركبها يا حلفا

أوما كنت للغزاة شهابا  

   كلما أقدموا يلاقون حتفا 

أو ما كان أهلك الغر دوما 

   يملأون الديار انسا وإلفا

فإذا اليوم هُم سكوت حيارى 

   لا يطيقون للنوائب صرفا 

   فالحديث عن حلفا هنا يختلف نوعا ما عن تلك المدن التاريخية التي وقف حيالها الشعراء، فقد انصرف الشعراء في تجاربهم الشعرية عن حلفا للحديث بكاء لغرقها  الذي أودى بالمدينة وحولها إلى أنقاض من الأطلال والذكريات، ورثاء لحالة أهلها وهجرتهم منها إلى أرض البطانة، وهو حدث لم يتكرر منذ ستينيات القرن الماضي إلى هذا اليوم. فلم تشهد دولة السودان تهجيرًا جمعيًّا خرجت به تماما من بيئة إلى بيئة مغايرة، اختلف فيها الأثر من منهج في السلوك والملبس والمأكل إلى الحرفة،  وقد أدى اختلاف البيئة من بيئة صحراوية إلى أخرى ماطرة طينية إلى اختلاف في طريقة السكن وطريقة العمارة لم تماثلها إلا ما نشهده اليوم من هجرة قسرية عن مدينة الخرطوم بما فيها من تجارب وآلام ومشاهد حزينة تظل حاضرة في وجدان أهلها ما بقي الزمان.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *