
لؤي أسماعيل مجذوب
ضابط سابق - باحث في شؤون الأمن الوطني والحرب النفسية
• من يقرأ ما كتبه الفريق أول ركن محمد بشير سليمان في حلقته الثانية عن «القوات التي تقاتل في حرب الكرامة» يظن أنه أمام وثيقة استراتيجية تُقدَّم في كلية الدفاع الوطني، أو محاضرة مغلقة لضباط الأركان. لكن الحقيقة أن النص، عند التمحيص، لا يحمل من صرامة الفكر العسكري إلا قشوراً، بينما يتكئ في جوهره على الاستطراد واللغة الإنشائية التي يحاول صاحبها أن يُعيد بها إنتاج ذاته بعد أن غاب عن الميدان طويلاً.
نرجسية تُعيد نفسها
محمد بشير لا يكتب ليفتح أفقاً للمقاتلين، بل يكتب ليؤكد أنه ما زال «المرجعية» حتى بعد أن أدار ظهره للميدان. مقالاته أقرب إلى جلسات تصفية حسابات مع الحاضر، حيث يتعامل مع القوات المقاتلة اليوم وكأنها دخيلة على تاريخه الشخصي. نبرة التعالي التي طبعته في خدمته العسكرية تعود اليوم، لتقول لنا: «لا مستقبل إلا عبر رؤيتي أنا».
مأساة مصنوعة على الورق
إحدى أبرز مشكلاته أنه يحاول تحويل قضية طبيعية إلى مأساة وجودية. حديثه المتكرر عن «اختلاف العقيدة والانضباط» ليس اكتشافاً ولا تحليلاً جديداً؛ إنه مجرد إعادة صياغة لموضوع قديم يعرفه كل ضابط تخرّج من الكلية الحربية منذ خمسين عاماً. لكنه يصر على تضخيمه وكأنه الخطر الأعظم الذي يهدد بقاء السودان. وهنا تكمن المفارقة: القوات التي يتحدث عنها بشير كانت في بارا وأم صميمة وكردفان، تدفع الدماء وتُحرز الانتصارات، بينما هو يحوّل الأمر إلى جمل إنشائية تتجاهل الميدان تماماً.
هجوم على الورق.. صمت عن السلاح
الأكثر غرابة أن محمد بشير يفتح معاركه على الورق ضد بروتوكولات جوبا واللجان التفاوضية، لكنه لا يوجه كلمة حقيقية ضد المليشيا. أيّ عسكري يدرك أن العدو الآن واضح ومحدد، وأن الأولوية القصوى هي حسم المعركة مع الدعم السريع. لكن بشير يختار أن يفتعل صراعاً داخلياً، وكأنه يسعى لتشويش الصفوف وزرع بذور الشك في لحظة حساسة. وكأن الرجل لا يحتمل أن يرى القوات المشتركة تكسب ثقة الميدان، فيحاول أن يسحبها إلى معركة جانبية على الورق.
ذاكرة انتقائية.. وتاريخ صامت
يسأل محمد بشير في مقاله: «أين كانت لجان التفاوض؟» وهو سؤال يكشف أكثر مما يخفي. فأين كان هو حينها؟ وأين كان صوته عندما كانت المؤسسة العسكرية تُقاد نحو أزمات متلاحقة؟ صمته الطويل، ورضاه بما جرى، يجعلان من تساؤلاته الراهنة محاولة لتبرئة الذات عبر إدانة الآخرين. يريد أن يكتب نفسه بطلاً متأخراً، بينما الميدان يعرف أنه لم يكن في لحظة الحسم لا في الصف الأول ولا في الأخير.
أسئلة تكشف التناقض
هل كان سيكتب بهذه الجرأة لو لم تُحقق القوات المشتركة مع الجيش انتصارات نوعية في كردفان؟
لماذا يتجاهل ذكر المليشيا، ويختار بدلاً عنها أن يجلد رفاق السلاح الذين يقاتلون الآن؟
أليس مقاله مجرد محاولة لسرقة الأضواء من انتصارات صنعها غيره؟
بين الميدان والصالونات
الحقيقة أن محمد بشير لم يعد يملك من أدوات النقد العسكري إلا مقالات تُكتب في هدوء الصالونات. بينما في الخارج، حيث الغبار والرصاص والعرق والدم، يصنع الميدان رجالاً جدداً لا يعرفون اسمه، ولا يحتاجون إلى وصايته. إنه يكتب من زمن مضى، في حين أن السودان اليوم يتشكل على أكتاف مقاتلين يواجهون الموت كل يوم، لا على أوراق مطبوعة بمفردات قديمة.
خاتمة مفتوحة على الميدان
مقال محمد بشير ليس «رؤية مستقبلية» كما يدّعي، بل محاولة يائسة لانتزاع موقع في ذاكرة الحاضر. لكنه موقع مشغول بالفعل: مشغول بدماء الشهداء في كردفان، بصبر الجنود في أم صميمة، وبانتصارات تُكتب بالبندقية لا بالقلم. الميدان اليوم لا يحتفي بالذين يثرثرون في الورق، بل بالذين يثبتون على الأرض. ومن يصر على كتابة الماضي كأنه حاضر، فلن يجد إلا أن يكتب على جثة مجده الشخصي.
شارك المقال