محمد الفيتوري: شاعر الهوية المزدوجة .. بين عزم ترهاقا وإيمان العروبة 

268
الفيتوري

بقلم: عماد الدين الصادق العوض بابكر - الأبيض

 • قراءة في ثلاث دراسات للدكتور «الباشا أحمد آدم برشم» عن الانتماء الأفريقي والعربي في شعر الفيتوري

في هذا المقال، نسلّط الضوء على قراءات الدكتور «الباشا أحمد برشم» النقدية لشعر محمد الفيتوري، الذي شكّل علامة فارقة في التعبير عن ازدواجية الهوية السودانية بين العروبة والأفريقية، وذلك من خلال تحليله لثلاث مراحل في شعره.. البدايات الصوفية، والامتداد العربي، ثم الوعي الأفريقي التحرري.

في فضاءآت الشعر السوداني، كثيرون هم الشعراء الذين غنّوا للوطن، لكن قلّ من جعل الوطن سؤالاً، كما فعل محمد الفيتوري، شاعر الوجدان المشطور بين انتمائين: عروبي وأفريقي. 

في دراسة رصينة امتدت عبر ثلاث حلقات، اجتهد الدكتور «الباشا أحمد آدم برشم» في تحليل هذا الانشطار الخلّاق في شعر الفيتوري، مبيناً كيف كان هذا الصوت الشعري نواةً لتحوّل ثقافي كبير في السودان، حيث لا العروبة وحدها كانت تكفي لتعريف الذات، ولا الأفريقية تكفي لتغذية الروح والنفس، بل التزاوج بينهما هو ما أنجب تلك القصيدة السودانية المتفردة الاصيلة.

لقد أدرك المفكرون السودانيون باكراً أن السودان ليس كياناً ثقافياً صافياً، بل هو نقطة إلتقاء وتجمُع، ومسرح تصادم وتلاقٍ بين هويتين كبيرتين: عربية وأفريقية. ففي وقت ذهب فيه بعض شعراؤنا إلى تغليب العروبة، حتى كادوا أن يقولوا بانتماء السودان إلى «جزيرة العرب» تقاليداً وثقافةً ولساناً، بالمقال كتب آخرون، السودان بوصفه هوية مزدوجة، لا يمكن اختزالها في بُعد واحد. ومن أبرز هؤلاء الأديب والمفكر «محمد أحمد المحجوب»، الذي تناول ما سمَّاه (ازدواجية الهوية السودانية)، مشيراً إلى أن هذه المراوحة بين العروبة والأفريقية ليست ضعفاً، بل مصدر غنى وخصوصية.

وإذا كانت هذه الرؤية قد ظلت قيد التفكير النخبوي، فإن الفيتوري هو من أطلقها في فضاء الشعر، لا باعتبارها إشكالية نظرية، بل تجربة معاشة تسري في دمه، وتُشكّل جوهر قصيدته. فهو الذي قال متحدّثاً عن لونه وهويته وانتمائه الحر:

أنا زنجيٌّ وأبي زنجي الجد

وأميّ زنجيّة

أنا أسودٌ لكني حرٌّ

أمتلكُ الحريّة

لكن هذه الجرأة في الإفصاح عن الأفريقية لم تكن نكراناً لعروبة مترسخة، بل كانت عودة إلى الأصل المُغيّب البعيد، وليست نفوراً من الآخر، وهذا ما كشفه الدكتور «برشم» في دراسته الثانية، حيث حلّل جانباً من شعر الفيتوري الذي احتفى فيه بالقضايا العربية الكبرى، مؤكداً انتماءه العاطفي والوجداني للأمة العربية، ووقوفه مع قضاياها، من القدس إلى بيروت، ومن بغداد إلى دمشق.

يقول «الفيتوري» عن القدس، وهي في القلب من الجرح العربي:

القدس عروس عروبتكم

فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟

ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها؟

وفي مرثيته لبيروت، يعلو صوته بالغضب والحنين:

بيروت! بيروت! يا وطناً

علم القلب أن لا يلينا

ويا قُبلة الثائرين…

ويتردد صدى انتمائه العربي في قصائد عديدة تناول فيها محنة العراق وسوريا ولبنان، مؤكداً أن انتماءه العروبي ليس شعاراً بل موقفاً شعرياً وإنسانياً، متجاوزاً الهويات الضيقة إلى هوية أرحب تتسع للثقافتين، وتنفتح على القيم الإنسانية السامية.

بهذا المزج الصادق بين الانتماءين، يصبح شعر الفيتوري بياناً ثقافياً، لا يُهادن ولا يُجامل. فهو حين يتحدث عن العروبة، لا يغفل عن جذوره الأفريقية، وحين ينشد لأفريقيا، لا يقطع أواصره مع أمته العربية. وهذا التوازن هو ما أبرزته دراسة الدكتور «الباشا برشم»، حين أشار إلى أن الفيتوري يمثّل جسر بين الحركتين الثقافيتين: حركة (التحرر الأفريقي) و(النهضة العربية)، فكان شعره مرآة للاثنتين معاً.

 تناول الدكتور «برشم» في دراسته الثالثة الجانب النضالي من شعر الفيتوري حين جعل من قصيدته سلاحاً لمواجهة الاستعمار الأوروبي، فصرخ بوجه الظلم باسم ملايين الأفارقة الذين طحنهم الاستعمار:

لم تمت فيّ أغانيّ

فما زلت أغنّي

لك يا أرضَ انفعالاتي وحزني

للملايين التي تنقش في الصّخر وتبني

وكان في بعض صوره الشعرية ينذر أفريقيا من الغفلة، ويوقظها من السبات:

أفريقيا استيقظي

استيقظي من حلمك الأسود

قد طالما نمتِ ألم تسأمي

ألم تملّي قدم السيّد؟

غير أن الفيتوري، كما يلاحظ الدكتور «عبده بدوي» في تعليق أورده الدكتور «الباشا برشم» قد يكون وقع أحياناً في الغلو الشعري، حين صوّر الأفريقيين بصور سوداوية منفّرة. وهي مفارقة نابعة من حِدة الصراع النفسي، إذ يتأرجح الشاعر بين الإدانة والاحتفاء، بين الألم والولاء.

وليس الفيتوري وحده من عبّر عن هذا التمزق. فقد سبقه بعض شعراء السودان في تأمل هذه الهوية المركّبة، ومنهم «مرسي صالح سراج»، الذي عبّر عن هذه المزاوجة في بيتٍ بالغ الدلالة:

حين خطّ المجدُ في الأرضِ دُروبا

عَزْمَ تِرْهاقا وإيمان العُروبة

عَرَباً نحنُ حملْناها ونُوبة

بهذا البيت، كما يقول الدكتور «برشم»، يتجلى الوعي المبكر بأن الهوية السودانية لا تُختزل في عرق أو لسان، بل هي صيغة كيميائية فريدة تجمع بين «عزم ترهاقا» رمز الإرث النوبي، و»إيمان العروبة» بما تحمله من قيم حضارية وجدانية.

لقد أتاح الفيتوري بصوته الشعري الفريد لهذه الثنائية أن تتحول من أزمة وجود، إلى مشروع تحرر، فجعل من ذاته نموذجاً للشخصية السودانية القادرة على الاعتزاز بكل روافدها دون خجل ووجل واضطراب. لم يُرِد من أفريقيا أن تُبتر، ولا من العروبة أن تُستعمر، بل أراد التقاءهما على أرض الحرية.

وفي هذا، كانت دراسات الدكتور «الباشا أحمد آدم برشم» خطوة جادة في تأصيل هذا الفهم، إذ أعادت قراءة شعر الفيتوري ليس بوصفه نصاً أدبياً فحسب، بل وثيقة ثقافية وسياسية، تعبّر عن تاريخ السودان، وعن حياة أجيالٍ تبحث عن ذاتها بين نارين: نيران الاستلاب والتبعية ونيران التشتت والتشظي.

وهكذا، يصبح شعر الفيتوري  كما يُظهره الدكتور « برشم « ليس مجرد استجابة وجدانية لمحنة فردية، بل قفذة جماعية نحو تعريف جديد للهوية السودانية.. هوية تُبقي جذورها ضاربة في الأرض، لكن أغصانها تمتد في اتجاهين، لا تفاضل بينهما، بل توحد بينهما في معنى الحرية والكرامة.

بهذا التداخل الشعري والثقافي، يقدّم الفيتوري نموذجاً فريداً لهوية سودانية ثرية جامعة، لا تنكر جذورها ولا تنغلق على موروثها، بل تتجاوز الانتماءات الضيقة إلى أفقٍ إنساني أرحب. ومن خلال دراسات الدكتور «الباشا أحمد آدم برشم»، يتضح أن قراءة الفيتوري ليست فنتازيا ثقافية بل ضرورة لفهم الذات السودانية في مراياها المتعددة، بين الصوت العربي والظل الأفريقي.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *