محمد السني دفع الله.. رجل فتح قلبه للخلق وأغلقه عن المنّ
Admin 8 يونيو، 2025 2246

الناجي حسن صالح
رئيس التحرير
• لا يُقال «محمد» وحده، ولا «السني» منفصلاً، ولا «دفع الله» مبتوراً. الاسم مثل النغمة الخماسية في الميزان السوداني، لا يكتمل إيقاعه إلا إذا دُق كلُّ معاً: (محمد السني دفع الله).
كأنّ الاسم وُلد من رحم التراب السوداني، ثقيلاً كالذهب، ناعماً كالغبار. لو حذفت جزءاً منه لانهار البناء، كالطنبور إذا نُزع وتر من أوتاره تهاوى بطنين لا يشبه فروهة. حتى الأطفال كانوا في حي الدرجة وفي حي 114 بمدينة ودمدني الوادعة، يرددونه كاملاً، دون تلعثم، كأنهم ينشدون أغنية قديمة للكاشف. كان عنواناً لرجل صنع من نفسه فناً، ومن فنه حياة. لو نطقته مُجزَّءاً، لخسرت شيئاً من تأخيذه. فبعض الأسماء تُولد كاملة، أو لا تُولد أبداً.
كان المساء ينسحب على حي الدرجة مثل رداء رقيق. نهر النيل يصمت في خلفية المدينة، والصغار يتجمعون كالعادة أمام المنزل الكبير. كان منزل أسرة محمد السني دفع الله مفتوحاً، كأنّه ساحة جامعة.
نحن، الأطفال في مطلع ستينيات القرن الماضي، كنا نتدافع على عتبة بابهم، نتنفس رائحة الأكل الساخن، وتطرب آذاننا أصوات كبايات الشاي، وهي تتصاعد آتية من الداخل. كانوا يسمحون لنا بالوغول، بلا ضجر، ولا عبس يبدو. كنا نجلس على الأرض، شاردي الأعين، نلتهم الصور البيضاء والسوداء التي تقفز من شاشة التلفاز، الذي كان شيئاً نادراً في ذلك الزمان، يمتلكه القلائل في تلك النواحي من البلاد.
محمد السني نفسه كان يظهر أحياناً، رجلاً هادئاً، يبتسم كأنه يعرف سراً لا نعرفه. كانت عائلته مجتمعة، تقدم لنا الشاي بالحليب والسكر الزائد، كأنها تعوضنا عن شيء ما.
كانوا جميعهم باباً إلى عالم آخر. كنا نرى أفلاماً، مسرحيات، أصواتاً تأتي من بعيد. وكنا نخرج بعد منتصف الليل، متثاقلين، نحمل في أعيننا بريق الشاشة، وفي آذاننا ضحكات الرجال الذين كانوا يجلسون في الخلف يدخنون ببطء ممزوج بالابتهاج.
ظهر على الشاشة في أدوار ثانوية.. رجل هنا، وجار هناك، أو صاحب (لازمة) يمر على قارعة السيناريو. لكن الكاميرا لم تلتقط حقيقته. لم تستطع السينما أن تحتوي ذلك القلب الكبير الذي يفيض كالنيل في موسم الأمطار.
كان يحمل في مخيلته عالماً كاملاً – مسرحيات لم تُكتب بعد، عرائس تنتظر أن تحيا، قصصاً تحتاج إلى من يرويها. لو فتحت رأسه لانهمرت أفكار كالمطر في أكتوبر، كل فكرة منها قادرة أن تبني مجداً.
لكنه لم يكن من أولئك الذين يصرخون بما عندهم. فهو يعمل في صمت، كشجرة السنط عند أطراف المدينة، التي تروي ظلها بلا ضجيج، تُنبت الأوراق ورقة وراء الأخرى حتى تصير ظلاً يُؤوى إليه.. اخترع شخصيات للأطفال، كتب التاريخ في قصص، علم المسرح لأجيال.. كل ذلك دون ضجيج. حتى أدواره الخفية في الحياة كانت أشبه بلعبة الظل.. يساعد دون أن ينتظر قرظاً، يصلح ما انكسر دون أن يبوح، يقدم الفكرة في الوقت المناسب ثم يختفي كأنه لم يكن.
كانت همته أعلى من أن يقنع بما أنجز. في عينيه ذلك الشرر الذي يقول: (ما زال هناك المزيد). لو أعطيته جبلاً لصاغ منه فناً وقيمة، ولو طلبت منه أن يضيء المدينة لصنع الشوف من الحرمان.
الأعجب أنه يفعل كل هذا بقلب نقي.. لا منّ في عطائه، لا أذى في طريقه. كأنه تعلم من النيل وبيت أسرته، أن يعطي دون أن يطلب مقابلاً. الفنان الحقيقي لا يصنع الفن، يصنع الحياة. وهو كان خير من فعل ذلك.
كان بيتهم في حي الدرجة جامعة لم يسجلوها في دفاتر التعليم العالي. ولم يكن هو مجرد فنان، بل كان رجلاً يفتح بابهم كأنه يفتح صدره. كنا ندخل لنشاهد التلفاز، فنخرج وقد تعلمنا شيئاً عن كل شيء، بما في ذلك السخاء الهادئ الذي لا ينتظر حمداً.
تربى في بيت يعرف أن الفن ليس إلقاءً للكلام على المسرح، بل هو إطعام للجائع، وإشراك الغريب في الفرح، وتقديم القهوة للضيف حتى لو جاء بعد منتصف الليل. كان ينصح طلابه كما ينصح أبناءه، بعينين دافئتين وصبر لا ينفد.
الأفلام صورت جسده وحركته، لكنها فشلت في تصوير روحه. كيف لها أن تظهر رجلاً يجعل من حياته عملاً فنياً متجدداً؟ كل لقاء معه كان مشهداً من مسرحية إنسانية، يقدم فيها النصح بلطف، يمسح دمعاً، يدفع عن أحدهم هماً بكلمة.
لم يكن يمثل على المسرح أو التلفاز، كان يمثل الحياة نفسها. والأدوار الصغيرة التي قدمها لم تكن سوى ظل لرجل وقف طويلاً في ضوء الشمس الحقيقية.
الآن، حين أتذكر ذلك الزمن، أتساءل: أين ذهبت تلك الأيام؟
أين ذهب ذلك الكرم؟
محمد السني لا يزال هنا، في ذاكرة المسرح، في أفلام مصر، في عرائس الأطفال التي صنعها، وفي الناس الذين يتلقون منه العلم. لكن المنزل الذي كان يضيء حي الدرجة لم يعد بالهم ذاته، ولا في البلاد ذاتها.
العالم يتغير.. والتلفاز لم يعد معجزة كما كان. لكني ما زلت أرى في عينيه حين يبتسم، ذلك السر الذي لم نعرفه أبداً.. ولن نعرفه.
شارك المقال