• لطالما شكّلت مجانية التعليم أحد أبرز شعارات الحكومات والمجتمعات الطامحة إلى العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. فالتعليم ليس مجرد حق دستوري، بل هو أداة تمكين للأفراد، وبوابة للنهوض بالأمم.
ومع ذلك، فإنّ ما يُعلن في الخطابات الرسمية كثيراً ما يختلف عن الواقع المعيشي للمواطنين، ليصبح التعليم المجاني شعاراً يلمع على الورق، بينما تظل التجربة العملية معقدة ومكلفة.
في العديد من الدول، يُفترض أن يضمن النظام التعليمي التعليم الأساسي مجانياً، بدءاً من الروضة حتى نهاية المرحلة الثانوية. إلا أن الواقع يكشف فجوة كبيرة بين النص القانوني وبين التطبيق الفعلي.
ففي السودان، على سبيل المثال، رغم اعتماد الدولة مبدأ مجانية التعليم، يجد العديد من أولياء الأمور أنفسهم أمام قائمة طويلة من الرسوم المدرسية، والمصاريف الإضافية، وشراء الكتب واللوازم الدراسية، فضلاً عن مساهمات غير رسمية تُفرض على الطلاب أحياناً تحت مسميات مختلفة. هذه الأعباء المالية تجعل التعليم المجاني مجرد وهم، خصوصاً بالنسبة للأسر ذات الدخل المحدود.
إضافة إلى ذلك، فإن مجانية التعليم لا تقتصر على الجانب المالي فقط، بل تشمل جودة التعليم نفسه. فغالباً ما تفتقر المدارس العامة إلى البنية التحتية الملائمة، والمعلمين المؤهلين، والمواد التعليمية الكافية، ما يجعل الطلاب مضطرين للجوء إلى الدروس الخصوصية أو المدارس الخاصة لتحصيل التعليم الجيد، وهنا تتضح مفارقة مؤلمة: التعليم الذي يُفترض أن يكون مجانياً، يتحول إلى سلعة باهظة الثمن.
تكمن المشكلة في أن الدولة غالباً ما تركز على الكم بدلاً من النوع، فتتوسّع في فتح المدارس دون الاهتمام بضمان جودة التعليم، أو توفير الموارد الكافية. وهذا يؤدي إلى تهميش الفئات الأشد فقراً، وخلق فجوة تعليمية كبيرة بين الطلاب في المناطق الحضرية والمناطق الريفية أو المهمشة.
الحل لا يكمن فقط في الإعلان عن مجانية التعليم، بل في وضع آليات واضحة لتطبيقها بشكل فعلي، تشمل التمويل الكافي، ومراقبة الإنفاق، وتطوير المدارس والمعلمين، وضمان وصول التعليم الجيد إلى كل طفل، بغض النظر عن خلفيته الاجتماعية أو الاقتصادية. يجب أن تتحول مجانية التعليم من شعار يُرفع في البيانات الرسمية، إلى واقع ملموس يُشعر به كل طالب وعائلة، لأنّ التعليم هو الحق الأساسي الذي يضمن العدالة والمساواة، ويشكّل حجر الزاوية لبناء مجتمع متقدّم ومتماسك.