محمد كمير
خبير اقتصادي
• الحرب الحالية في السودان كشفت عن خلل كبير في طريقة تعامل المواطنين مع أموالهم ومدخراتهم، حيث كان الكثيرون يفضلون الاحتفاظ بها على شكل ذهب أو عملات صعبة بدلاً من استثمارها في مشاريع إنتاجية أو إيداعها في البنوك. هذا السلوك ناتج عن غياب الثقة في النظام المصرفي والاقتصادي، وهو ما جعل الخسائر فادحة بعد عمليات النهب التي طالت المنازل والبنوك. تشير التقديرات إلى أن السودانيين فقدوا ما يزيد عن ٥ أطنان من الذهب وأكثر من ٤ مليارات دولار كانت مخزنة في المنازل أو مدفونة تحت البلاط، إضافة إلى فقدان عدد ضخم من العربات والأصول الإنتاجية.
هذه الأرقام تعكس حقيقة مؤلمة؛ المواطن السوداني لم يكن يستثمر أمواله بسبب عدة عوامل، أبرزها انعدام الثقة في النظام المصرفي نتيجة الأزمات الاقتصادية المتكررة، وعدم استقرار العملة الوطنية، وغياب الضمانات الاستثمارية. كل هذه العوامل جعلت المواطن يرى أن امتلاك الذهب أو الدولار هو الوسيلة الأكثر أماناً لحفظ أمواله. الحرب أثبتت أن هذا النهج لم يكن آمناً كما كان متوقعاً، حيث فقد كثيرون كل ما كانوا يدخرونه في لحظات.
بعد الحرب، لا يمكن أن يتوقع أحد أن يعود المواطن السوداني إلى نفس الأساليب القديمة في الادخار، خاصة بعد أن ضاعت مدخراته وضاع شقى عمره شمار في مرقة. يجب أن تكون هناك إصلاحات جذرية تعيد الثقة في النظام المالي، وأحد أهم هذه الإصلاحات هو إنشاء لجان تعويضات تضمن تعويض المتضررين الذين فقدوا أموالهم ومدخراتهم، وخاصة أصحاب خزن الأمانات في البنوك الذين فقدوا ثقتهم في المصارف، إضافة إلى تعويض أصحاب الأصول الإنتاجية التي دُمرت خلال الحرب. هذه اللجان يجب أن تعمل على وضع آليات شفافة وفعالة للتعويض، سواء من خلال منح مالية مباشرة، أو إعفاءات ضريبية، أو قروض ميسرة بدون فوائد لمساعدة المواطنين على إعادة بناء حياتهم.
من ضمن الحلول المقترحة أيضاً أن تقوم الدولة بإعفاء أي شخص فقد سيارته في الحرب من الجمارك عند استيراد سيارة جديدة، بشرط أن يقدم مستندات تثبت ملكيته السابقة للسيارة المفقودة، وتسليم أي خردة متبقية منها للدولة حتى تتمكن من إعادة تدويرها والاستفادة منها لاحقاً. هذا الاقتراح سيشجع المتضررين على تعويض خسائرهم بطرق عملية دون أن يتكبدوا خسائر إضافية بسبب الرسوم الجمركية المرتفعة.
كذلك، يجب على الدولة أن تضع حوافز استثمارية لتشجيع المواطنين على إعادة توظيف أموالهم داخل السودان بدلاً من تهريبها إلى الخارج أو تخزينها بطرق غير آمنة. يمكن تحقيق ذلك من خلال ضمانات بنكية، وإنشاء صناديق استثمارية حكومية تضمن للمواطنين عوائد مجزية وآمنة، بالإضافة إلى تسهيل الإجراءات البنكية وتقليل الضرائب على الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة.
هناك تجارب عالمية يمكن الاستفادة منها في هذا المجال. بعد الحرب الأهلية في لبنان، وضعت الحكومة اللبنانية برامج تعويض وإعادة إعمار ساعدت الناس على العودة واستئناف حياتهم. وفي الكويت، بعد الغزو العراقي، تم تعويض المواطنين الذين فقدوا أموالهم وأصولهم عبر صندوق حكومي خاص. السودان بحاجة إلى نموذج مشابه، حيث يكون التعويض منظماً ومبنيًا على أسس عادلة وشفافة.
لن يضع المواطن السوداني مدخراته في البنوك مرة أخرى إلا إذا استعادت المصارف مصداقيتها وتم إصلاح النظام المالي ليكون أكثر استقراراً وأماناً. يجب أن تتبنى الدولة سياسات نقدية واضحة تحمي قيمة الجنيه السوداني، وتوفر بيئة استثمارية جاذبة تجعل المواطن يفضّل تشغيل أمواله بدلاً من تخزينها. الحرب كانت درساً قاسياً، لكنها قد تكون فرصة لإعادة بناء اقتصاد أكثر استقراراً، حيث يكون الاستثمار هو الخيار الأول للمواطن، وليس الاكتناز والخوف من المستقبل.
شارك المقال
