مأساة شول منوت: صوت الوطن الممزق بين الشمال والجنوب (فيديو)

228
شول منوت
Picture of أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

مقدمة

• يمثّل “الوطن” ما يتجاوز الحدود الجغرافية؛ هو ذاك الحاضن الأخلاقي والثقافي الذي يرعى هوية الإنسان ويمنحه شعورًا بالأمان والانتماء. وعندما يتقاطر شغف الفن والموسيقى ويتلاقى مع هذا الإطار الوجداني، ينبثق صوتٌ قادرٌ على اختراق الأسوار الصامتة، ليكون جسرًا يربط بين أجيال وثقافات. في قلب هذا التلاقي، تبرز قصة شول منوت، شاب من جنوب السودان تربّى في شماله، حوصلته موهبته الصوتية الفريدة على مسابقة “نجوم الغد” في قناة النيل الأزرق، حيث خطف الأنظار بقدرته الاستثنائية على أداء التراث الغنائي الجنوبي والشمالي على حدّ سواء. كان جدار الصوت لديه متسعًا لعذوبة الحُزن وفرح الاحتفال، وحتى “الحقيبة” التي يُقال إنها من أغنى الأغاني السودانية تراثيًا، فقد بدا وكأنّه ينسج منها خيوط الحنين ويعيدها إلى الحياة بصوته الدافئ وأُسلوبه المتماسك.
إن مقدرته على توظيف حنجرةٍ مرنةٍ تجمع بين الطبقات الصوتية، من الطبقة الصدرية العميقة التي تمنح الكلمات ثِقلًا وحضورًا، إلى الطبقة الرأسية العالية التي تسبح على أنغام القمرية، لم تكن مجرّد موهبة عابرة، بل تجلٍّ لحسٍ موسيقي نادر يحوّل كل كلمة إلى قصة وكل نغمة إلى لوحةٍ فنية. هذا الصوت المُؤثر، الذي تفجَّر في القاهرة الخرطومية كما ينبوعٍ صافٍ، لم يكن مجرد أداة غناء، بل جسراً مفتوحًا يربط شطري السودان قبل انفصالهما، ويجسد الأمل في وحدةٍ إنسانية تتجاوز الحدود.

الوطن كمفهوم شامل

الوطن هو الإطار الذي يجمع بين الأرض والشعب والمؤسسات والثقافة والهوية. الأرض تمثل البقعة الجغرافية التي تحمل معالم تاريخية وجغرافية مشتركة، تثري ذاكرة الجماعة. والشعب هو مجموعة الأفراد الذين يتشاركون اللغة والعادات والذكريات الجمعية. والمؤسسات السياسية والقانونية تُنظم الحياة اليومية وتؤمن الحقوق والواجبات. الثقافة تشمل الفنون والأدب والعادات التي تعكس خصوصية المجتمع وروحه. وأخيراً الهوية هي الشعور الذهني والعاطفي بالانتماء، والذي يلدولاءً ورغبةً في المساهمة في بناء الوطن والحفاظ عليه.
بهذا المفهوم الشامل، كان السودان قبل الانفصال وطنًا ثريًا بالتنوع؛ يمتد من كريمونتار الطبيعية إلى ام درمان التاريخية، ومن بورتسودان الساحلية إلى كثبان دارفور الشاسعة، يجمع بين قبائلٍ ولغات متعددة وثقافاتٍ متداخلة.

الانفصال في 11 يوليو 2011: مشاعر الشمال والجنوب

أدى استفتاء يناير 2011 إلى اختيار نحو 99% من سكان الجنوب الاستقلال، مما قررت معه الأمم المتحدة انفصال جنوب السودان رسميًا في 11 يوليو 2011. في الشمال، ساد شعورٌ بالحزن والأسى والإحساس بالخسارة الجغرافية والاقتصادية، لاسيما مع مرور غالبية النفط عبر الجنوب. اعتبر كثيرون الانفصال تمزيقًا لوحدة تاريخية، وزحفًا على خريطة الوطن الكبير وأمنه الغذائي والتنمية المستقبلية.
في الجنوب، اختلط الحماس بالأمل ببعض القلق. فقد تبنّى أبناء الجنوب فكرة بناء دولة جديدة تُحترم هويتهم وتحقق استقلالهم السياسي والثقافي والاقتصادي. لكن سرعان ما بزغت مخاوف من الانقسامات القبلية القديمة والصراعات الداخلية، خاصة بعد اندلاع الحرب الأهلية في نهاية 2013، إذ بدا أن الأمل بالتنمية والاستقرار لم يكن بالسلاسة المتوقعة.

نشأة وتكوين شول منوت: جسورٌ مشدودة بين الشطرين

ولد شول منوت في جنوب السودان، لكنه قضى جزءًا كبيرًا من حياته في شمال السودان. تربّى في الخرطوم بين أزقّة التعايش المتنوّع، حيث تعلّم اللهجة العامية الشمالية وتعمّق في الثقافة السودانية الجامعة. اكتسب شهرةً فنية من خلال مشاركته في مسابقة “نجوم الغد” على قناة النيل الأزرق، حيث أذهل الجمهور بصوته الفريد وقدرته على مزج النغمات التقليدية للجنوب مع الحسّ الموسيقي الشمالي.
كان شول رمزًا “للوطن المشترك”، بحيث لم يفصله عن شمال السودان سوى الوراثة القبلية، ولا انفصاله عن الجنوب سوى الحدود التي تقطع السكك والسواحل والأنهار. ففي صوته اجتمع السوادنيون على تنوعهم، وكان مثالًا حيًا لوحدة الهوية رغم التباين الجغرافي.

الرحلة الأخيرة: من الأضواء إلى الصمت

بعد انفصال الجنوب، قرر شول العودة إلى الجنوب ليشارك في بناء وطنه الجديد بالموسيقى والثقافة. لكنه أصيب بداء السل، المرض الذي يعاود الظهور في المجتمعات التي تعاني من هشاشة الأنظمة الصحية. أعاد مقدمو برنامج “نجوم الغد” في الشمال رعايته وعالجوه على نفقتهم، فبدت آمالٌ كثيرة في تعافيه واستئناف مسيرته الفنية.
إلا أن القدر كان أسرع: عاد شول إلى الخرطوم في رحلة علاجية، ولكن صحته تدهورت سريعًا، وفارق الحياة قبل اندلاع الحرب التي انتشرت بعد سنوات قليلة. وهكذا مات وهو منقسمٌ بين وطنين، لم يشعر بالأمان الكافي من أيٍّ منهما لحماية حقه في الحياة.

مأساة انعكاس الانفصال على الفرد

توضّح قصة شول منوت ثلاثة أبعاد إنسانية مظلمة من آثار الانفصال:

١- انهيار شبكات الدعم الاجتماعي.

فقد قطع الانفصال الرباط الرسمي بين الشمال والجنوب، مما جعله وكأنه “مواطن بلا وطنٍ كامل”. فالخدمات الصحية التي اعتاد عليها في الشمال لم تعد متاحة في الجنوب، بينما لم يوفر الجنوب بعد استقلاله منظومة رعاية قوية لتحمي أبناءه من الأمراض المزمنة.

٢- هشاشة الهوية المشتركة.

ظل شول يعيش بين ثقافتين، فلم يعد شمالُه الوطن الوحيد، ولا الجنوب وحده من ينصفه. وهذا التمزق زاد من شعوره بالغربة؛ لم يشعر بأن الحدود الجديدة تعترف بانتمائه المزدوج، وصار مثالًا لأولئك الذين يُتركّزون “بين الحفرتين”.

٣- تداعيات صحية واجتماعية واقتصادية

فالانفصال لم يكن مجرد فصلٍ جغرافي؛ بل قصّ خدمات الرعاية والعلاج والتعليم. ونظراً لتوزيع الموارد النفطية والاقتصادية، تقلصت إمكانيات المستشفيات والبنى التحتية في الجنوب، فيما واجه الشمال ضغوطًا مالية أكبر للاعتماد على صادرات نفط أقل.

النظرة الأوسع: الوطن كحاضن أخلاقي واجتماعي

إن قصة شول تثير تساؤلات عن طبيعة الوطن وواجباته تجاه أبنائه:
• هل يمكن للحدود أن تقطع عمق الانتماء الإنساني؟ الحدود السياسية قد تنفصل، لكن الشعور بالجذور المشتركة يظل حاضرًا في القلوب. تجربه شول بين شماله وجنوبه خير دليل على ذلك.
• ما مسؤولية دول ما بعد الانفصال تجاه المزدوجين الهويات؟ يجب أن تعترف الدولة والمجتمع الجديد بالشرائح التي تربطها تجربة مشتركة، وأن توفر شبكة أمان اجتماعية واستشفائية تتجاوز الحدود الجغرافية.
• كيف يعالج المجتمع آثار الانفصال؟ عبر تعزيز الحوار والتكامل الثقافي بين الشطرين، وتأسيس آليات للتعاون في الصحة والتعليم والاقتصاد، حتى لا يشعر أي فرد بأنه خارج أسوار وطنه.

دروس من مأساة شول منوت

١- أهمية المحافظة على القيم الإنسانية المشتركة: قبل أن تفصل الحدود، يجب ترسيخ مبدأ الأخوة والتعاون بين أبناء الوطن الواحد.

٢- ضرورة بناء مؤسسات صحية متكاملة: الانفصال يفرض تحديات إضافية، لذا ينبغي تأسيس شبكات رعائية تمتد عبر الحدود الجديدة إذا لزم الأمر، خصوصًا للفئات المزدوجة الانتماء.

٣- الاعتراف بالهويات المزدوجة: لا يجب إجبار الأفراد على اختيار طرف واحد؛ فالتنوع والتلاقح الثقافي قوة لا ضعفًا.

في نهاية المطاف، تختزل مأساة شول منوت درسًا عميقًا في قيمة الصوت كمرآةٍ للهوية والوحدة. فقد تماهى صوته مع نبض السودان المختلط، وأعاد بناء “الحقيبة” كرمزٍ للعطاء والحنين، قبل أن يخبو نورُه سريعًا بمرضٍ لم يعترف بحدود السياسة. إنّ تأمُّل ما قدّمه شول يذكّرنا أنّ الوطن الحقيقي لا يقتصر على ترسيم حدود؛ بل يقوم على تبادل الأصوات والأحلام المشتركة التي تنبض في قلوب الجميع. واليوم، حين نسمع صدى “الحقيبة” المأخوذ على لسانه، نعي أن الصوت يمكن أن يقاوم التشظي السياسي، ويعيد إنتاج جسرٍ إنسانيٍّ خالد، حتى وإن فرّقته الحدود الرسمية. القصة الحقيقية لوطنٍ ممزق تظهر لنا أن التضامن بين البشر، المتمثل في صوتٍ واحدٍ، في إحساسٍ ليس له جنسٌ ولا قبيلة، هو وحده الذي يبقى حيًا بعد أن يخفت ضوء الانقسام.

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *