
سارة عبدالمنعم
كاتبة روائية
• ليلةُ شتاءٍ باردةٍ، لا دِفءَ فيها سِوى ذكرياتِ شتاءٍ ماضٍ أشعلَ نيرانَ الشوقِ والحنين. ليلُ القاهرةِ لا ينام. حبيبةٌ تتأبطُ ذِراعَ شابٍّ انحنَى من أجلِها كَتِفَهُ، وعاشِقان يبتَسِمان حُبَّاً في وجهِ النيل … كم هو جميلٌ!
ابتسمتُ لرَجُلٍ سبعينيٍّ يُدخِّن التَّبغَ ويحتسِي القهوَةَ. دعانِي للجلوسِ بعدَ أن سألَ سُمرتي عن جِنسيتِها، وكم تَزيَّن وجهُهُ بالفرحِ حينَ قلتُ إنَّني سودانية، «ابنة النيل». لم أُمهِلهُ كي يَنهضَ بالتَّحايا، عانقتُه جُلوساً، وقبَّلتُ وجْنَتيه، ورأيتُ فيهِ وجهَ جَدِّي.
أنفٌ مُستقيمٌ كممثلٍ فرنسيِّ، وقامةٌ رفيعةٌ كجنديٍّ إنجليزيٍّ دون كِرْش، وأناقةٌ تليقُ بأميرٍ، وحذاءٌ لامعٌ، وعطرٌ بينَ وَقارِ مُسنٍّ وشَبابٍ يستلذُّ بالحياةِ. مَشيبُ رأسِه أثارَ إعجابِي، فتساءلتُ : هل هو ما زَادَ وسامةَ ملامِحَه، أم أنَّ سوادَ حاجبيِهِ ورموشهِ هو من أضْفَى عليهِ تلك الهَيْبةَ العتِيقةَ؟!
تحدَّثنا كثيراً، عن بلادي التي يَعرِفُها، عن مطارِ الخرطومِ المودِّع، و’أم درمان’ موطن المُبدعين، تلك التي شُيّدتْ فيها السجون. عن ‘بحري’ وشعراءَ الأمسِ، عن هدوءِ ورُقيِّ شوارعِها. ظللتُ أُقسمُ له أنَّني خرطوميةُ الميلاد والمنشأ، لكنِّي امتلأتُ عِشقًا لأم درمان، لأزِقَّتِها القديمةِ، لحُفرِ شوارِعِها غيرِ المُسفلتَةِ، لنَسَماتِ «أب روف»، وهواءِ كُبري النِّيل، وحفلاتِ الغِناءِ والرَّقصِ.
ضحِكتُ حينَ همَسَ لي العجوزُ أنَّ ذلك الشَّابُ الجالسُ في رُكنٍ قريبٍ، لا حَبيبةَ له ولا صَدِيقة، فقط هو دائمُ الحُضورِ، مع قهوتِه ومَسَاءَاتِ النِّيل. أثنَى عليهِ كثيراً.
شعَرتُ حِينَها بأنَّني بجِوارِ صديقٍ قديمٍ، يُوقظُ ضَحَكاتِي، ويُلفِتُ انتباهِي إلى شابٍ مُحترمٍ ووسيمٍ، كأنَّهُ يُريدُني أن أُفَكِّرَ في ارتباطِ قلبي بهِ.
كان العجوزُ مجنوناً بطريقةٍ محبَّبةٍ. نادَى على الشَّاب ملوِّحاً. تمتمتُ بلهجَتِي السودانيةِ : «الليلة ووووب!»، فضحِكَ العجوزُ وفضحَ أمرِي.
الشَّابُ جميلُ الابتسامةِ، ودودُ النظراتِ، خُصلاتُ شعرِهِ حرَّرتْ لِسانِيَ من تحفُّظِهِ وصمتِهِ. صرَّحتُ بإعجابِي، وقُلتُ إنَّ قَصَّةَ شعرِهِ تُناسِبُ وجهَهُ المُستدير. ثم نظرتُ للعجوزِ، وغَمزْتُ له بعينٍ ماكرةٍ، أُعاكِسُ بها أفكَارَهَ وتلك الابتِسامةُ.
دنَا من أُذُنِي، وقدمَاهُ تستَعِدانِ للرَّحيلِ، وهمسَ:
«الوحدةُ لا تُطاق… والبعيدُ عن أهلهِ يحتاجُ لرفيقِ غُربة… وهذا الشَّابُ يليقُ بكِ.»
نَهَضتُ لعناقِ العجوزِ، وبثثتُه امتنانِي لِلَحَظَاتٍ حُلوةٍ مَعَه. تودَّعنَا وتوَاعَدنَا على لِقاءٍ قريبٍ.
نظَرتُ إلى الشَّابِ الجَّميلِ، بالكَادِ عَرفتُ اسمَه، وتعَالَتْ خَفَقَاتُ قلبي كما الأنفاسِ. اسمهُ هو نَفسُه اسمُ حبيبٍ بعيدٍ هجَرتُ دِيارَه، فهجَرَ حُبِّي. صبرتُ على البُعادِ، وتماديتُ في الهُروبِ عن بلادِه.
سَرَحتُ في ذكرياتِ حُبٍّ وحنينٍ، وجَلَساتِ نِيلٍ لا يُشبهُ هذا الذي أجلسُ عند ضفتِه الآن. نَسَماتُ الهواءِ في بلادِي كانتْ ألطفُ، لا تعبَثُ بشعرِي، بل تُداعِبه.
القهوةُ هناك بمذاقِ الأهلِ والصِّحابِ. الزَّنجَبيلُ فيها مِزاجُ ضَحَكاتٍ وغناءٍ ورِفقةٍ.
كم كنتُ أُحبُّه!
هكذا خرجتُ من صمتٍ طويلٍ لم يقاطِعه رفيقي الشَّاب، سِوى بابتسامِة. ابتسمتُ كالبلهَاءِ، ونهضتُ بعُجالةٍ، مُودِّعةً وشاكرةً لصدفةٍ جمعتنَا.
همهمتُ بأن اسمَه يعني لي فرحاً قديمًا، وماضٍ جميلٍ مفقُودٍ. وشَرَدتُ مُهروِلةً نحوَ آخرِ الرَّصيفِ.
لكن… كان العجوزُ هناك، واقفاً، على مقاسِ أُمنِياتي. فرِحتُ بهِ، وبادَلَني بابتسامةٍ كطفلةٍ فرِحةٍ بحفظ نشيد، أو سُورة.
حدَّثتُه بسعادةٍ عن النِّيلِ في بلادِي، عن شوقِي لها، عن اللَّعنةِ التي أُصِبتُ بها من فِعلةِ بلادي. بعدَ صمتٍ، ربَّتَ على كَتِفِي، وسألنِي عن أمرِ الشَّابِ. حكيتُ لهُ، عن اسمِه، عن الذِّكرياتِ، والبلادِ.
شاكَسَني بأنَّه «يافعٌ، مُحبٌّ للحياةِ، متَّزن.»
وكأن ذلك أغضَبَني، فوجدَّتَنِي أفتخرُ بجمالِ ابنِ بلادِي، وقلتُ: «لا أروَعَ منهُ ولا أجملَ.»
لا أعلمُ كيفَ سَرَق العجوزُ صِدقِي واطمِئنَاني. رُبما كنتُ بحَاجةٍ لصديقٍ أُقصُّ عليهِ ما أثقَلَ قلبي. رغم ما في القلبِ من جِراحٍ، ظلَّ الحُبُّ فيهِ مَبعثَ أفراحٍ وقوةٍ.
الجراحُ التي تأتِي بعدَ جُرحِك الأوَّلِ – جُرحِ العَشَمِ والثِّقةِ والصِّدقِ – لا تُقارنُ بهِ، بل تَمنحُكَ صَلاَبةً.
سُؤالُ العجوزِ عن ديارِ الحبيبِ ذكَّرني بأم دُرمان. أحببتُ مَلامِحَه المُشاكِسةَ، وأقسمتُ بينَ ضَحِكٍ ونفيٍ أن «الخرطومَ أنجَبتنَا».
احتَضَننِي العجوزُ، احتَميتُ بصدرِهِ من دَمعٍ تجرَّدت له صَلابتِي، وفضَحَ ادِّعاء لا مبالاتِي. صِرتُ هشّةً، منهكةً من الحَنينِ. تنهَّدتُ، والدموعُ فاضَتْ حينَ عَبَثتْ نسماتٌ باردةٌ بخُصلاتِ شَعرِي.
قلبي من أبكانِي، هو من قال إنِّ كَفَّ حبيبي لم يكنْ لِيسمحَ بذلك، هو من أخبرنِي أنَّ دِفءَ بلادِي كان في حُضنِها.
عاتَبَنِي قلبي : كيف سَمَحتِ للغربةِ بسرِقَةِ أيَّامكِ الحُلوة؟
فأجبتُه : لقد رحلتُ كي أُداويكَ، وضحَّيتُ بالحُبِ والوطنِ لأجلِ شِفاءِك.
لكنَّ صوتَ العجوزِ لم يُمهِلني، أشارَ بسبَّابتِهِ نحوَ الشَّابِ الجميلِ، رفيقِ قهوتِنا والنّيلِ، حامِلِ اسمِ الحبيب.
ابتسمتُ ..
همَسَ لي العجوزُ :
«أنتِ أجملُ سمراءَ تُحبُ بلادَها في الحُبِ، وأصدقُ من عَرَفت.»
همهمتُ مبتسمةً :
«أحببتُ بلادِي، ورجلاً فيها، فاضَ سِحرُه حتى أصَابنِي العَمَى عن سِواه. كنتُ «زُليخاه»، لكنه… يُوسُفيٌّ سجينُ أرضٍ تعاقَبُ عُشّاقها بسياطِ مطاراتِها.»
الخرطومُ لا يَرِقُّ قلبُها لمُحبٍّ. قاسيةٌ حينَ نبكي فيها من تَلويحةِ ودَاع.
القاهرةُ ليلاً تُثير الحنين. صَرختُ بذلك من نافذةِ التاكسي، وكان زجاجُ البابِ مُتردداً بين نزولٍ وطُلُوع.
لوَّح لي العجوزُ، وسمِعتُه يردِّدُ من بعيد :
«يَحيَا الحُب، والنيل، وعشَّاقُه!»
عند آخر شارعٍ يفصلُني عن شقةِ وحدَتي البارِدة، رأيتُ أبناءَ سِحنَتي، يدفِّئون الفضاءَ بأصواتِ غناءٍ وشجنٍ. انضممتُ إليهم، أصفِّقُ، وأُردِّدُ، وأُكفك.ِفُ دمعَ الحنِين.
تجمهرنَا، جاءَ بنا الشَّوقُ وفِعلةُ بلادٍ نُحِبُّها. بينَ ضَحَكاتٍ ودموعٍ، تذكَّرتُ القُمريةَ وهي تبكِي، والعصافيرَ تزقزق، والقماري تِهدِلُ حنيناً لحبيبٍ غَاب.
صفَّقتُ نشوةً، وفخِرتُ بكلماتِ أغنيةٍ تمجِّدُ عِشقَ البلادِ. عَلَت الزَّغاريِدُ، وتسرَّبت العَبَراتُ، ودارَينا نظراتِنا العاتِبة لقسوةِ وطنٍ لفظنا …
رغمَ كلِّ دفءِ تلك الليلة، هربتُ إلى بيتِي. لكنَّ رائِحةَ القهوةِ، ومساءَ العجوزِ، ورزانةَ الشَّابِ، ما زالت تَشتَعِلُ نِيرانَ شوقٍ في قلبي.
فالشتاءُ دونهم، فصلُ بَردٍ وجفافٍ… لا يرحَلُ.
شارك المقال