
الناجي حسن صالح
رئيس التحرير
• الورقة بيضاء كالثلج الذي لم يدنَّس بأقدام العابرين. والقلم ثقيل كلاجئ في زمن الحرب. أكتب لأني لا أستطيع أن أفعل غير ذلك. لكن السؤال الذي يطاردني كظلٍّ في قارعة النهار: لمن أكتب في زمن صار فيه القراءُ قضاة يحملون معول الإعدام قبل فأس الفكر؟
هناك من يدخل النص من باب الاسم لا من باب المعنى. هم لا يقرأون الكلمات، بل يقلِّبون الصفحات كالمفتشين عن بصمة إصبع في مسرح جريمة نكراء. إن وجدوا الاسم مألوفاً، ابتسموا كالذئاب أمام فريسة سهلة. وإن لم يعرفوه، صنَّفوه وأداروا ظهورهم كأنهم يغلقون باب سجن على فكرة لا تُشبهُهم.
وهناك من يقرأ الكلمات ثم يبحث عن الاسم في الأسفل. كأنَّ المعاني والمقاصد لا تعني شيئاً دون هوية كاتبها. هم لا يقرأون ليفهموا، بل ليعرفوا: من هذا الذي يتجرأ على الكلام؟
يقفون على حافة السطور، كالذئاب على أطراف الغابة. لا يتبنّون فكرة. لا يزرعون نبتة. فقط ينتظرون. يحدقون في العابرين، يلمسون سكاكينهم، حين صوت… مستعدون للقطع. يحسبون كل صيحة عليهم.
جرَّبت أن أكتب بلا اسم. فصار النص يتيماً في مدينة لا تُحب الغرباء. تساءلوا: «من هذا الذي يتكلم؟» بدلاً من أن يتساءلوا: «ما الذي يُقال؟» هم لا يريدون الحقيقة، بل يريدون وجه القائل ليصنفوه في متحف ذاكرتهم: هذا «مفكر»، وهذا «خائن»، وهذا «عدو»، وهذا «حليف» وهذا «كوز». وهذا «قحاطي».
القراءة عندهم ليست حواراً مع النص، بل مقصلة للكاتب. هم لا يبحثون عن الفحوى، بل عن الهوية التي تمنحهم الحق في الاحتفال أو الرجم.
الكتابة فعلٌ شجاعٌ. لكنهم لا يفهمون الأفعال. هم يعيشون على ردود الأفعال. لا يهمهم إن كانت الكلمة نوراً أو ناراً. المهم من أشعلها.
في المقابل، هناك من يدخل النص كالمستكشف الذي يبحث عن كنز في أعماق المحيط. يغوص بين السطور بقلب مفتوح، لا يهمه إن كان الكاتب صديقاً أو عدواً، شرقياً أو غربياً. هم يقرأون بعيون لا تعرف الصبغات، وعقول لا تعترف بالحواف.
لكن السؤال الأعمق: ماذا يبقى من الكاتب حين لا يقرأ أحدٌ كلماته كما يجب؟
أكتب لأن الكلمات تخلِّد ما يموت في الواقع. أكتب لأن الحروف قد تصير ذات يوم شاهداً على زمن لم يعرف الحقيقة. أكتب لأن هناك طفلاً في مكان ما قد يجد في سطوري ما لم يجده في مقاعد المدرسة. أكتب لأن كلمة واحدة قد تُضيء عقل إنسان واحد، وهذا يكفي.
الكتابة ليست طلباً للجمهور، بل هي رحلة في صحراء الوجود. قد تموت الكلمات عطشاً، لكنها تظل بذوراً قد تنبت يوماً ما تحت شمس أخرى.
ليس عندي (شينة) أخفيها. ولا فضيلة أتباهى بها على الناس. فقط أكتب لأهرب من شيء ما.
ربما يصادفني في طريق هروبي هذا، (قحاتي). فلا تثريب. وربما يسايرني في ذات الدرب (كوز) فلا ضير. لأني لا أعرف نيات الناس. لم يخبرني أحد بسريرته. ولم أسأل.
الكتابة مثل العدو في الصباح الباكر. أنت تركض لأنك يجب أن تركض. لا تنظر خلفك. لا تتساءل عمن يراقبك من النافذة. بعضهم يرى في الحروف جرحاً. وبعضهم يشمُّ فيها رائحة الدم. لكنك تركض رغم ذلك. لأن التوقف يعني الموت.
النياتُ؟ لا تُرى. هذا أو ذاك، مجرد أحجار في الطريق، منها النفيس ومنها غير ذلك.
لذا أكتب كما يتنفس الجريح، لأني لا أملك خياراً آخر.
أكتب لأني لا أستطيع أن أسكت.
وأكتب لأن الصمت في زمن الضجيج هو أعلى أنواع الصراخ.
أكتب لأن بعض الكلمات يجب أن تقال.
أكتب لأن في الصمت خيانة.
وأكتب، في النهاية، لنفسي أولاً.
فإن لم يقرأوا، فليكن.
وإن قرأوا فقط ليهاجموا، فما يضيرني؟. فأنا سوداني من قبل ومن بعد، ولا مقام عندي لخونة التراب.
والأفكار حتماً لا تموت.. والحقيقة لن تُدفن بالتصنيفات المقيتة.
شارك المقال