لماذا انحسرت الثقافة القومية العربية.. رغم الفضاء المفتوح والمنصات المتعددة؟

35
نجيب يماني

نجيب عصام يماني

كاتب صحفي سعودي

• على الرغم من اتساع الفضاء الإعلامي اليوم، وتعدد المنصات التي تسمح بالتواصل الفوري بين الأفراد والمجتمعات، فإن الثقافة القومية العربية تبدو في حالة انحسار وتراجع لم تشهده منذ عقود. والمفارقة الموجعة أن هذه الظاهرة تأتي في زمن تتقاطع فيه الحواضر العربية افتراضياً أكثر من أي وقت مضى، بينما تتباعد فعلياً على مستوى الفعل الثقافي المشترك، والرؤية الجامعة، والمشروع الحضاري المتكامل.

لقد شهد العالم العربي في منتصف القرن العشرين وبداياته نهضة ثقافية متشابكة الحلقات، صنعت ملامح ما يمكن أن نطلق عليه «ثقافة قومية عربية». كانت هذه النهضة نتيجة جهود واعية، ومبادرات مؤسساتية وأهلية، تضافرت فيها حركة الترجمة، وازدهرت الصحافة والمسرح والفنون، وأنشئت الجامعات والمجامع اللغوية، وتفتحت صلات معرفية بين المشرق والمغرب العربيين. كانت القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد وتونس والرباط مراكز متفاعلة، يجتمع فيها المبدعون من مختلف الأقطار، فتخرج الأعمال والنتاجات بروح عربية جامعة، تتجاوز الحدود السياسية وتخاطب وجدان الأمة جمعاء.

غير أن المشهد اليوم يكاد يخلو من مثل هذا التفاعل العميق. لقد انكفأت الأقطار العربية على إنتاج ثقافي محلي الطابع، موجّه في أغلبه لجمهور داخلي محدود، مع افتقار إلى المنابر العابرة للحدود، التي كانت فيما مضى تجسد وحدة الخطاب الثقافي. وإذا كان الماضي قد شهد صحفاً ومجلات ومؤسسات تعليمية ذات امتداد عربي واسع، فإن الحاضر يعج بمنصات إعلامية ومنابر رقمية تفتقر إلى المشروع الجامع، وتكتفي بالتغطيات المتفرقة والاحتفالات الرسمية التي لا تترك أثراً يتجاوز زمنها ومكانها.

لا يمكن إنكار أن الوسائل التقنية اليوم فتحت آفاقاً غير مسبوقة للتواصل والتبادل الثقافي. لكن هذه الإمكانات بقيت، في الغالب، رهينة الاستهلاك الفردي السريع، ولم تتحول إلى أدوات لصياغة مشروع ثقافي قومي مشترك. فالمنصات الرقمية الكبرى، وإن كانت تسمح بنشر المحتوى على نطاق واسع، غالباً ما تحكمها خوارزميات تكرّس الانغلاق داخل الدوائر المحلية أو الأيديولوجية الضيقة، وتغذي التشتت بدلاً من التلاقي. أما الإنتاج الثقافي المنظَّم، القادر على حمل قيم وهوية مشتركة، فقد تراجع لصالح مشاريع فردية أو تجارية لا تضع البعد القومي في حساباتها.

يعود هذا الانحسار إلى جملة من الأسباب البنيوية والسياسية والاجتماعية. فقد تراجعت في العقود الأخيرة أولوية الثقافة في السياسات العامة، وأصبح الاستثمار فيها هامشياً مقارنة بالقطاعات الأخرى. كما أن النزاعات والانقسامات الداخلية بين الدول العربية خلقت بيئة من العزلة المتبادلة، وأضعفت الثقة اللازمة لقيام مشاريع مشتركة طويلة المدى. يضاف إلى ذلك غياب التخطيط الاستراتيجي الثقافي على المستوى العربي، وضعف المؤسسات القادرة على جمع الطاقات والمواهب في إطار رؤية موحدة.

إن انحسار الثقافة القومية لا يعني غياب الإبداع العربي، فالمواهب الفردية ما زالت تتوهج في مجالات الأدب والفنون والعلوم. لكن هذه الطاقات تبقى متناثرة، تفتقر إلى البنية المؤسسية التي تمنحها الاستمرارية والانتشار والتأثير الواسع. وكثير من المبدعين يجدون أنفسهم مضطرين للبحث عن منصات خارج الفضاء العربي لتقديم أعمالهم، الأمر الذي يعمّق فجوة الانفصال بين الإنتاج الثقافي العربي وجمهوره الطبيعي.

المفارقة أن الظروف التقنية التي نعيشها اليوم، كان يمكن أن تشكل فرصة ذهبية لتجاوز العقبات القديمة. فالاتصال الرقمي، وتبادل المحتوى الفوري، والقدرة على تنظيم فعاليات افتراضية عابرة للقارات، كلها أدوات كفيلة بخلق شبكة ثقافية عربية متجددة. غير أن غياب الرؤية والقيادة الثقافية الفاعلة، جعل هذه الإمكانات تتبدد في مبادرات فردية متناثرة، أو تُستغل في مجالات ترفيهية استهلاكية لا تعزز الوعي الجمعي.

ولإعادة الاعتبار للثقافة القومية العربية في زمن الفضاء المفتوح، نحن بحاجة إلى جملة من الخطوات العملية. 

أولاً: صياغة مشروع ثقافي عربي مشترك، يتبناه اتحاد أو مجلس ثقافي عربي مستقل، يضع أهدافاً محددة وخططاً زمنية، ويربط بين المبدعين والمؤسسات في كل الأقطار.

ثانياً: الاستثمار في منصات رقمية قومية قادرة على استضافة المحتوى الإبداعي وتوزيعه على نطاق واسع، مع ضمان وصوله إلى الجمهور في كل بلد عربي.

ثالثاً: دعم التبادل الثقافي المنتظم عبر ورش عمل، مهرجانات، معارض، وبرامج تبادل فني وأكاديمي، بحيث تتخطى الطابع الاحتفالي إلى بناء شراكات حقيقية مستدامة.

رابعاً: إعادة تفعيل حركة الترجمة والنشر على مستوى عربي موحد، لتبادل الإنتاج الفكري بين الدول، وإيصاله للجمهور بلغة مفهومة وأسلوب معاصر.

خامساً: تأسيس صندوق تمويل ثقافي عربي يموّل المشاريع الإبداعية ذات البعد القومي، ويشجع على إنتاج محتوى يخاطب الوجدان العربي المشترك.

الثقافة القومية ليست شعاراً عاطفياً، بل هي مشروع بناء متكامل، لا يكتمل إلا حين يصبح هدفاً مشتركاً لكل دولة ومؤسسة ومبدع عربي. وإذا كنا قد نجحنا قبل سبعين عاماً في صياغة نهضة ثقافية، بوسائل أكثر تواضعاً وإمكانات محدودة، فلا مبرر اليوم أن نعجز عن استعادة ذلك الزخم ونحن نملك فضاءً مفتوحاً، وأدوات اتصال هائلة، وجمهوراً متعطشاً لما يوحده ويعبر عن هويته.

التحدي الحقيقي أمام الثقافة القومية العربية اليوم ليس نقص الإمكانات، بل غياب الإرادة والرؤية. فإذا استطعنا أن نعيد صياغة هاتين الركيزتين، فإن الفضاء المفتوح لن يكون ساحة للتشتت والانغلاق، بل منصة لانبعاث حضاري جديد، يربط الماضي الزاهر بالحاضر المتغير، ويؤسس لمستقبل تتكامل فيه الجهود، وتلتقي فيه المواهب، وتُبنى فيه وحدة ثقافية عربية قادرة على أن تحيا وتزدهر رغم كل التحديات.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *