
م. معتصم تاج السر
كاتب صحفي
• «لا يستثني أحداً»… عبارة بسيطة في ظاهرها، لكنها صارت في واقعنا السوداني كالتهمة على من يقولها…!
يتجاذبك اليسار تارة، ويشدك اليمين تارة أخرى..!!
وكأن الدعوة لجلوس كل السودانيين على مائدة واحدة باتت جرماً أو شبهة.
والحقيقة أن هذه العبارة لا تعني الانحياز لطرف ضد آخر، بل تعني الانحياز للوطن، والبحث عن جامعٍ واحد يجمعنا بعد أن فرّقتنا الصراعات.
لقد آن الأوان أن ندرك جميعاً أنّ الحوار السوداني – السوداني، الذي لا يستثني أحداً من أبناء هذا الوطن، هو المخرج الحقيقي من دوامة الخراب التي ألمّت بنا، وهو الطريق الوحيد نحو سودانٍ يتسع للجميع، ما لم يكن أحدنا فاقداً للأهلية القانونية، أو مداناً بجرائم في حق الشعب والوطن.
إنّ السؤال الجوهري الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا ليس من يحكم السودان، وإنما كيف يُحكم السودان..؟
وبأي دستور نحتكم جميعاً..؟
وهل يليق بنا بعد كل هذه السنوات العجاف، وكل ما ذاقه الوطن من دماء وتشريد ودمار، أن نظل ندور في حلقات من النزاع والتمزق، دون أن نحتكم إلى وثيقة واحدة جامعة، دستور دائم لا يتغيّر مع تبدّل الحكومات، ولا تُشوّهه الأهواء، ولا تعبث به الأيدولوجيات..!؟
لقد جُرّبت الحلول الجزئية، وعُقدت الاتفاقات الثنائية، وتوزّعت الولاءات بين يسارٍ ويمينٍ ووسط، لكنّ الوطن ظلّ ينزف، لأنّ أساس العقد لم يكن جامعاً.
آن الأوان أن نُقرّ بحقيقةٍ لا تقبل المواربة: لا بدّ من دستور قومي واحد، دستور يتسع لتعددنا الكبير وتنوعنا الباذخ، دستور يُعطي لكل فرد حقه، ولكل جماعة مكانها، ولكل إقليم خصوصيته، دون أن يتعارض ذلك مع وحدة السودان في هويته ومصيره.
إنّ الدعوة إلى الحوار ليست ترفاً سياسياً، ولا شعاراً للاستهلاك، بل هي واجب وطني، وهي مسؤولية أمام الأجيال القادمة، التي من حقها أن تعيش في وطنٍ متماسكٍ مستقرٍ، محكومٍ بدستور عادل يضمن الحقوق والواجبات، ويؤسس لسيادة القانون.
ومع ذلك فإنّ هذا الحوار الجامع، لا بدّ أن يستثني من لوّث يديه بدماء الشعب، أو شارك في تدمير مقدراته.
فالتاريخ لا يرحم، والعدالة لا تتجزأ، والوطن لا يبنى بأقدام من خانوه.
الحوار إذن للجميع، إلا من خان الأمانة، أو ارتكب جرماً في حق الأمة؛ فهؤلاء مكانهم المحاسبة أمام القضاء لا مقاعد التفاوض.
إنّ السودان أكبر من أن يُختزل في حزبٍ أو فكرٍ أو طائفة، وأجمل من أن يُمزّق بين ولاءاتٍ ضيقة.
هو فسيفساء من الأعراق والثقافات والديانات والمناخات، لا يجمعها إلا دستور دائم، تُكتب ديباجته بمدادٍ من تضحياتنا، وتُشيّد مواده على قاعدة العدالة والمساواة، فلا غالب ولا مغلوب، بل مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات.
ولعلّ أهم ما نحتاج أن نؤكد عليه اليوم، هو أن تنوعنا ميزة وليست عيباً..! نحن متنوعون ولسنا مختلفين..!
فالتنوع في لغاتنا ولهجاتنا، في عاداتنا وثقافاتنا، في بيئتنا من النيل إلى الصحراء ومن الجبال إلى السواحل ليس سبباً للتناحر، بل رصيد قوة ينهض به السودان.
ألسنا نرى أن كل الحضارات العظيمة قامت على التنوع..!؟
فلماذا نريد أن نجعل من تنوعنا لعنة بينما هو أعظم نعم الله علينا..!؟
إنّ مشكلتنا أننا أفرطنا في إجادة الاختلاف حتى صارت لنا ملكة، ولم نتعلم كيف نُحسن الاتفاق.
حتى في مأساة الحرب، فشلنا أن نتوحد حول جراحنا، فبدا المشهد للعالم مرتبكاً: أهو بلدنا في مأساة إنسانية حقيقية بكارثة صحية وفجوة غذائية ونزوح ولجوء..!؟ أم أن الأمر عكس ذلك..!؟
لقد جعلنا المجتمع الدولي في حيرة من أمرنا، لأننا لم نحسن حتى أن نُجمع على الألم نفسه…!
فلتكن كلمتنا اليوم: آن أن نجلس دون استثناء، لنتوافق على دستور يُخرجنا من ظلمات الصراع إلى رحابة الدولة الوطنية الحديثة.
دستور يفتح لنا باب المستقبل، ويضمن أن ما حدث من خراب لن يتكرر.
فالسلام ليس غياب الحرب فحسب..!
بل هو حضور العدالة.
والديمقراطية ليست صندوق اقتراع فقط.!
بل هي دستور دائم يعلو على الجميع نحتمي به جميعاً ونفخر به جميعاً.
اللهم احفظ السودان وأهله، واجمع كلمتهم على الحق، واصرف عنهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأبدل خوفهم أمناً، وفرقتهم وحدة، وضعفهم قوة.
محبتي والسلام
شارك المقال