لا سقف ولا عمر ولا أوصياء في الإبداع والكتابة

17
محمود درويش
Picture of عزالدين ميرغني

عزالدين ميرغني

• المتتبع لتاريخ الأدب والكتابة والإبداع في كل مجالاته وأنواعه ، وفي العالم العربي عامة ، يجد بأن هنالك مراكز ثقافية ودولاً بعينها ، تريد أن تكون لها وللإبداع عموماً أنبياء وأسماء تظل متبوعة ،  ويدور الكل في فلكها إلي ما لا نهاية . ويجب أن تكون طقوسها وقداستها مفروضة علي الكل بحيث لا يكون هنالك نبي للإبداع والكتابة بعدها.

 فهنالك منصباً لأمير الشعراء ، وسيدة للغناء ، وشيوخ للفكر والفلسفة . ورواداً للمسرح والنقد والفن التشكيلي . وهنالك سقوفاً للرواية والقصة ، وآباء للنقد ، وأكاديميون  ورسالاتهم المكتوبة فيه هي قمم لا يمكن الوصول إليها . وهؤلاء فقط هم من له الحق في تقييم وتحكيم أعمال الآخرين . رغم أن مدرس النقد والأدب ، ليس بالضرورة أن يكون ناقداً أو أديباً. 

وغالباً ما تكون تلك المراكز الثقافية المهيمنة موجهة أيديولوجيا وفكريا وشعوبيا . والأدب والإبداع دائما ضد الهيمنة الأيديولوجية والشعوبية والفكرية لأنها تخنقه وتحد من قوة وحرية التخيل فيه . 

والخيال الذي لا يحتكره أحد ولا بلد في الكون لأنه طاقة موجودة وستكون موجودة ما بقي الإنسان على الأرض . وفي عالمنا العربي هنالك ما تزال دولا عربية ، تريد أن يكون الأدب والكتابة والإبداع في كل مجالاته حكراً عليها وحدها. 

ولقد كنا وما نزال نحن أول الضحايا في ذلك .فهنالك من يستكثر علينا الكلام بالعربية ، فكيف الكتابة بها ؟  وهنالك من يريد حسداً من عند أنفسهم ، أن يكون الإبداع والأدب ، مسقوفاً تابعاً ، مستظلاً بتلك السقوف ، حتى لا يصله الضوء فيموت ، أو يبقى قصيراً لا يتجاوز من لا يريدون تجاوزه . 

وتلك هي أخطر مؤامرة مدبرة ومقصودة على الإبداع في الوطن العربي  جميعه . فمحمود درويش ماتت التفعيلة معه ، أما آخر المبدعين في الشعر الكلاسيكي فهو الجوهري ، وقبله عمر أبو ريشة وأمير الشعر حياً وميتاً هو أحمد شوقي بالطبع . وهي مستمرة ،وقد طالت عدواها كل البلاد العربية ، ومنها بلادنا ، بحيث تكون لكل بلد أصنامه التي لا يجوز هدمها وتكسيرها ، والتي وجدوا ما قبلهم عليها. 

وهذه العقدة تجاوزها الغرب من زمن بعيد ، فلم يعد شكسبير هو عبقري الشعر ، ولا سيرفانتيس ، هو سقف الرواية ، ولا دافينشي هو آخر أنبياء الرسم والتشكيل .وحتى أدباء نوبل هنالك ليسوا أصناماً مقدسة ، وقد تعرض الروائي الفرنسي مونديانو الذي نال جائزة نوبل في هذا العام  ، لأشد أنواع النقد وقالوا بأن غيره يستحقها.  

وهذه العقدة التي زرعت في نفوس كل موهوب قصداً ، قد أضرت الكتاب الجدد ، وجعلت هنالك فوبيا من تهمة تقليد هؤلاء الأمراء  ، والخوف من عدم تجاوزهم ، والكاتب الذي يكتب خائفا من التقليد أو عدم التجاوز ، قد يتوقف نهائياً عن خوض هذه التجربة . وفي بلادنا ومنذ الستينات ، فهنالك أسماء وشعراء وكتاب صنعتهم الأيديولوجية ، ومراكز القرار الأدبية ، والكاتب المصنوع تنتهي صلاحيته سريعاً . وقد يضره ذلك كثيراً حتى ولو كان موهوباً ومبدعاً ، لأن الأجيال القادمة الجديدة دائماً متمردة وتحاول أن تهدم كل ما هو مفروض عليها ، وهذا ما سيحدث للكثير من الكتاب المفروضون علي الناس إعلامياً ونقدياً من الأجيال القادمة. 

وأكثر الأصنام سهلاً في الهدم هي أصنام الكتابة وعواجيزها . وقد حدث منذ الآن ، فهنالك رسالة دكتوراه قدمت عن كاتبة سودانية ، كلها نقداً لأعمالها . رغم الظلم الذي حاق بها في هذه الرسالة ، ولكنك لا تستطيع أن تمنع الدارس من أن يكتب ما يقول . نحن ما تزال عندنا أغاني الحقيبة لن تتكرر ، وفناني ومغني الستينات والسبعينات ، لا يمكن أن يجود الزمان بمثلهم ، والشعراء وأهل القصة والرواية في العصور السابقة لا يمكن أن تلد حواء الإبداع كأحد منهم ، أما الطيب صالح فهو سقف الرواية القوي المتين ، فإما أن تحاول تقليده ، فبضاعتك مقلدة والبضاعة المقلدة لن تكون مثل الأصل أبداً ، أو أنك من المستحيل  أن تتجاوزه.

 بل أن الطيب صالح يريد البعض منا وبكل سذاجة أن يحتكره ويعتبره أبن أفكاره وصنيعة أيديولوجيته ،إن الطيب صالح هو نموذج من نماذج الرواية الجيدة وهذا يكفيه فخراً حياً وميتاً ، وهذه المقولة أراد بها البعض قفل باب الإبداع الروائي في بلادنا نهائياً ، وخاصة أمام الشباب والكتاب الجدد ، وأكبر فشل للكاتب هو أن يحسد ويغير من الأجيال الجديدة في الكتابة ، ولطالما وقف ويقف ضد هذا الجيل الكثير من بيدهم الأمر والشأن الثقافي العام والخاص.  

ومن قبلها حاولوا ذلك عربياً مع نجيب محفوظ ، ليكون نجيب محفوظ سقفاً للرواية العربية كلها ، وقد كاد أن يكون الطيب صالح نفسه ضحية لهذه السقفية ، لولا أنه كتب وهو خارج الدائرة العربية كلها. 

وسقفية نجيب محفوظ قد أضرت بالرواية العربية أيما ضرر ، رغم أن التخلص منها قد بدأت ثماره تظهر الآن ، خاصة في الروايات الفائزة بالبوكر العربية . وقد بدأت الرواية المصرية تجني ثمار التحرر من العقدة المحفوظية. 

لقد عرف أهل المغرب الكبير هذه العقد المشرقية فبدؤوا في تجنبها وقد فتحوا الباب واسعاً للتجريب والتجديد في كل أجناس الأدب والإبداع. 

لقد أضرت هذه القيود أكثر ما أضرت فئة الكتاب والمبدعين من الشباب ، والذين عقدتهم دائما من الكبار ، والذين يعتقدون بأن الكتابة لها عمر وسن معينة. 

فهنالك أدب شباب ، وأدب كهول ، رغم أن هذا ضد الموهبة والتجديد والتجريب. وإذا ما تمثلنا في طبيعة الإبداع في النص الأدبي ، فيصبح من الصعب تماماً وضع قسمات معينة لنص شاب ، ونص عجوز ، فالاهتمام يجب أن يتركز في بنية النص في علاقاته وتناصه مع نصوص أخرى ، في طريقة معماريته وبنائه ، في الرؤى المتشعبة والدلالات التي يطرحها  و لا]جب أن يتركز في  العمر الزمني لصاحب النص ولا سيرته الشخصية.

وفي بلادنا لا تزال هنالك مراكز تريد صناعة القرار الثقافي ، هذه الثقافة التي أضرها انقسام المثقفين إلي يمين ويسار ، وهذا الضرر يلاحقها حتى الآن ، فاليسار يرى بأن الكاتب يجب أن يكون متفلتاً ، ومتمرداً على كل شيء ، حتى في زيه ولبسه ، وأقام الحواجز والحدود سنوات عديدة بعد الاستقلال حتى لا يبرز كاتب ولا مبدع خارج أفكاره ودائرته المغلقة ، رغم أن الزمن قد تجاوزه وأصبح الآن يبحث متنازلاً عن زبائن الكتابة والإبداع ، واليمين بكل طوائفه ومدارسه ، ترك الساحة لغيره لكي يتسيدها ، لم يوصى أتباعه وتلاميذه بالتبحر في كتب الأدب والفكر الحديث ، بل كان الإسلاميون ، وحتى وقت قريب وأقصد بهم أهل الوسطية والاعتدال يتجنبون دخول كليات الفنون والموسيقى والمسرح . وتركوها حلالا لغيرهم وبدؤوا يفتشون عنها الآن بحسرة ، وبعد فوات الأوان. 

بل المشكلة الكبرى أمام الأحزاب الإسلامية ، أو شبه الإسلامية في كل العالم الإسلامي، أن تختار مسئولاً في قطاع الثقافة والإبداع والفنون حتى في تنظيمها الحزبي، ليكون حداثوياً ، ومتابعاً ، ومواكباً لكل المستجدات في دنيا الثقافة بكل دروبها الحديثة وليست التقليدية. 

والثقافة هي أخطر من السياسة ، وهي التي توحد الناس وتجمعهم ، وتؤكد هويتهم . بل كل الأحزاب في بلادنا ومهما ادعت التقدمية والتحررية تخاف من المثقف الحقيقي ، لأنه دائماً لا يكون تابعاً ولا منقاداً إلا إذا كان من أهل المنافع وطالبي المناصب ، وحارقي البخور . 

وللأسف الشديد فحكوماتنا ، وكل الأحزاب بمختلف اتجاهاتها ، التي حكمتنا ، والتي تحلم بأن تحكمنا ، لا تعين ولا تقرب إلا هؤلاء . والذين لم يبدعوا ولم ينجزوا ، إلا ما يصب في مصلحتهم وطموحهم الشخصي فقط . لذلك ترى الوجوه نفس الوجوه المكررة والمستهلكة ، التي إذا لم تستمر في منصبها ، وفي وظيفتها ، انقلبت تعادي الوطن كله . وتلك هي محنتنا الكبرى.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *