لا جدوى من الجدل مع العقول المتمترسة

392
محمداني2

هيثم محمداني

كاتب صحفي

• في زمن يتطلب منا الانفتاح والحوار البنّاء، تبرز فئة من الناس تتعامل مع النقاش وكأنه ساحة معركة، لا مساحة للتفاهم. أفراد لا يؤمنون بالرأي والرأي الآخر، ولا يعترفون إلا بما يرونه هم صحيحًا، بل ويتمترسون خلف أفكار جامدة، رافضين أي محاولة للتطوير أو إعادة النظر. هؤلاء لا يستمعون لفهم، بل فقط للرد، كأن عقولهم أُغلقت على ما فيها، لا يدخلها جديد ولا تخرج منها رؤية.

قالت الممثلة البريطانية هيلين ميرين: “قبل أن تتجادل مع شخص ما، اسأل نفسك، هل هذا الشخص ناضج عقلياً بما يكفي لفهم مفهوم منظور مختلف؟”، وهي عبارة تختصر معاناة كثيرين ممن يجدون أنفسهم في جدالات عبثية مع من لا يستحقون النقاش أصلًا. فليس كل نقاش علامة وعي، وليس كل خلاف يستوجب الخوض فيه.

وما يثير الاستغراب أن بعض هؤلاء، رغم ضيق أفقهم، يمارسون أعمالًا بسيطة أو معتادة، لكنهم يضخمونها ويضعونها في إطار “النجاح الاستثنائي”. تجد أحدهم يفاخر بإنجاز لا يتعدى كونه واجبًا وظيفيًا، ويضع لنفسه ألقابًا كبرى، ويُصدر نفسه كمرجعية فكرية وهو في الحقيقة يعيش على اجترار أفكار غيره. همّه الأول تحقيق مكاسب مادية، ولو على حساب القيم، متجاهلًا أن القيمة الحقيقية لأي عمل تكمن في صدقه وأثره، لا في حجمه أو مردوده المالي.

الأدهى من ذلك، أن بعضهم يتباهى بما لا يُفتخر به. يسرد تجارب تفتقر إلى المشروعية أو النزاهة كأنها بطولات، ويعرض ما قام به من تجاوزات وكأنها “كفاح”، متجاهلًا أن القوانين والمبادئ وُضعت لتُحترم لا ليُلتف عليها. يقدمون أنفسهم كأبطال صنعوا المستحيل، بينما الواقع يثبت أنهم مجرد أشخاص استغلوا الثغرات لا أكثر.

ومع كل ذلك، لا تجد عندهم فكرًا متجددًا، ولا قدرة على الإنتاج الذاتي. أفكارهم مستعارة، وتجاربهم مكررة، وإبداعهم لا يتجاوز حدود الاقتباس. لا يُطوّرون أنفسهم، ولا يُراجعون مواقفهم، بل يسيرون على خطى غيرهم ثم يدّعون الأصالة.

أمام هذا النوع من العقول، يصبح الانسحاب فضيلة. فالنضج لا يُقاس بمن ينتصر في الجدال، بل بمن يعرف متى لا يخوضه. الحفاظ على السلام الداخلي أهم من إثبات وجهة نظر لشخص قرر سلفًا ألّا يغيّر رأيه. ليست كل المعارك جديرة بالقتال، ولا كل العقول مهيأة للفهم.

إن النقاش حين يكون مع عقل متفتح، يُثمر فكرًا ونموًا. أما حين يكون مع من لا يرى إلا ذاته، فلا يُولد سوى التعب. فابتعد عن الجدل الذي لا طائل منه، ووفّر طاقتك لما يستحق.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *