لازم البيوت منذ خمسة آلاف سنة.. (العنقريب) رفيق درب السودانيين من المهد إلى اللحد

51
000
Picture of إعداد: أمل عبد العزيز سعد

إعداد: أمل عبد العزيز سعد

• يعود التاريخ البعيد للعنقريب- بحسب كبير مفتشي الآثار فوزي حسن بخيت- إلى فترة حضارة كرمة (2500-1500) قبل الميلاد، حيث وجدت في منطقة الدفوفة عاصمة المملكة شمال السودان أجساد ملوكها مسجّاة عليه داخل غرف الدفن، ومحاطة بالقرابين. ولا يختلف عنقريب مملكه كرمة الأثري كثيراً من حيث الشكل عن المستخدم حتى  وقت قريب في عموم بيوت السودان؛ بخلاف أن عناقريب الملوك كانت تنسج فقط بالجلد. وهو ما يسمى (عنقريب القد). الذي يتميز  بوجود مسندة خشبية للرقبة باعتبارها وسادة. وتتخذ أرجله شكل أقدام الأسد، فضلاً عن تعيينها بالذهب والمعادن النفيسة.

أصل كلمة عنقريب

كلمة عنقريب أتت من شمال السودان، فهو (أنقري) باللغة النوبية، وحرفت الكلمة إلى أن أصبحت عنقريب. واستعملت في كل مناطق السودان  المختلفة، ففي الوسط لم يكن العنقريب مزخرفاً، بل يصنع من أربعة قوائم، ويجلّد بجلد البقر أو الإبل.

 اكتشاف العنقريب

 اكتشفت مقبرة الكنداكة للملكة أماني شاخيتي منذ قرون عديدة، حيث كانت ممددة على عنقريب خشبي مع كامل مقتنياتها  من العطور وأدوات الزينة أسفله، بينما كانت يداها مخضبتين بالحناء.

ويمكن القول إن العنقريب منذ القدم كان هو السرير الأساسي  للسودانيين. 

فهو في الأفراح رمز فأل حسن، أما عند الموت فهو رمز البركة والغفران؛ لصلته بالسماء والمجموعة  النجمية المعروفة في علم الفلك ب (العنقريب)، وكذلك مجموعة  ما يعرف ب (بنات نعش). 

ومن المعلوم أن النعش هو ما يحمل عليه جثمان الميت إلى المقابر، 

ويرجح أن من أطلق على تلك المجموعات هذه الأسماء سيدنا إدريس عليه السلام.

  قيمته التراثية

  في الليلة التي تسبق طقوس الزواج، والمعروفة ب (ليلة الحنة)، التي يخضب فيها العروسان كلٌّ على حدة، في هذه المناسبة يستخدم العنقريب ليجلس عليه العريس، وهذا هو ارتباط العنقريب بالفرح. 

كما أنه يدخل في الحزن أيضاً؛ فجثمان الميت عند تشييعه إلى المقابر للصلاة عليه ثم مواراته الثرى، فإنه يحمل على العنقريب.

 رمز ثقافي

 العنقريب هو رمز من رموز الثقافة السودانية، وتكثر صناعته فى الولايه الشمالية. وبالرغم من ظهور الأَسرّة الحديثة من مختلف المعادن، لكن لا يخلو بيت من العناقريب.

(البنبر) نموذج مصغر

 البنبر هو مقعد صغير، يشبه العنقريب في كل شيء، إلا أنه يسع شخصاً واحداً فقط.

وهو خاص بالنساء، حيث يجلسن عليه

لأداء الأعمال المنزلية، التي تتطلب الجلوس، مثل، عواسة الكسرة، وغسل الأواني، وتجهيز مكونات الطبيخ من خضار وبهارات، وغيرها. كما تجلس عليه النساء العاملات في بيع الطعام والشاي والقهوة. 

أنواع العناقريب

للعنقريب أنواع عدة، تختلف من حيث الشكل والغرض من الاستعمال، ومن تلك الأنواع. 

1- العنقريب الهبابي:

 هو عنقريب  مصنوع من عيدان الأشجار، ومن غير تدخل المخارط  الحديثة، وتسمّى عيدانه الطويله مرق، والأعواد العرضية تسمّى وسادة، وينسج من الحبال، ويكون مقسوماً إلى قسمين، الأول منهما يسمى البحر، ويمثل ثلاثة أرباع مساحة النسيج، والكرّاب يمثل الربع الأخير؛ ووظيفته لشد النسيج عندما يرتخي.

2- عنقريب (ود أبو رخيصة) 

يصنع من السنط، ويوسّر  بالحنقوق،  أو القد. 

3- العنقريب الكبير

يصنع من السنط، ويوسّر بالقد؛ وهذا النوع يكون ثابتاً داخل الغرف، ويتصف بأنه عالٍ، وأرجله كبيرة وأوسع قليلاً. 

4- عنقريب الجرتق

عبارة عن عنقريب خشبي، عليه ملاءة  حمراء جميلة، وعليها مساند مزركشة، لتجلس العروس قبالة القبلة، وتأتي أسرة العريس في صحبة ابنها محملة بسبحة اليُسر السوداء، والهلال مطرز على منديل، ليربط حول جبين العريس، ويلبس ثوب الساري المشهور، حاملاً معه سيفاً مذهباً يهز به فرحاً. 

من المهد إلى اللحد

يدخل العنقريب في دورة حياة السوداني، ويلازمه منذ الولادة، مروراً بالختان، وحتى «الجرتق» (الزفاف التقليدي) للعروسين، فبعد الولادة تمضي به الوالدة فترة النفاس تيمناً، ويحضر دائماً بكل مناسبات الفرح كالعرس والختان. وهو رمز ليلة الحناء، تلك السابقة لليلة العرس، حيث يزيَّن لتجلس عليه العروس أثناء الاحتفال، ثم يجلس عليه العروسان في حفل الزفاف. 

لكن العنقريب يأبى إلا أن يظهر بقوة مع الممات أيضاً، فهو دون غيره ما يحمل عليه السودانيون موتاهم إلى المقابر، فيما يعرف بـ»عنقريب الجنازة»، ليرافق السوداني حتى رحلته الختامية إلى القبر، ولا يجوز عرفاً عند السودانيين حمل الجنازة إلا على العنقريب. ولا تصلح لذلك أَسَرّة الحديد. 

وهكذا ظل العنقريب حتى وقت قريب، رفيق زغرودة الزفاف، وصرخة الميلاد، ووسيلة الوصول إلى المثوى الأخير، ليفرض نفسه ملمحاً أساسياً في كل تلك المناسبات.

أفول نجم

بدأ نجم العنقريب السوداني، ذلك السرير التقليدي المصنوع من الخشب الخام، والمنسوج بحبال سعف النخيل، في الأفول بخسارة معركته من أجل البقاء، بعد أكثر من 5 آلاف سنة، ظلّ خلالها ملازماً البيت السوداني، بصفته جزءاً أصيلاً من تراثه وثقافته حتى فترة السبعينيات القريبة.

لكنه الآن تحول إلى مجرد إكسسوار في المناسبات، تجده منزوياً في أحد الأركان، أو في المخازن، لاستخدامه عند اللزوم في الأفراح والأتراح معاً. وهي المناسبات التي كان مرتبطاً بها على الدوام.

العنقريب رفيق الفرح والموت، 

تراجع وجوده تدريجياً مع تطور صناعة الأثاث الحديثة، وغزو الأسرّة المعدنية من الحديد والألمنيوم أو من الأخشاب المشغولة، وتضاءلت قدرته على الصمود أمام أشكال الحداثة التي طالت جميع جوانب حياة السودانيين؛ لكنه ما زال صامداً في تشييع الموتى، إذا لا غنى عنه ولا تفكير في استبداله في حمل الموتى إلى مثواهم الأخير.

 

شارك الموضوع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *