كودي عثمان الحاصل على لقب: «أكثر إنسان له رغبة في الدراسة في العالم»
Admin 25 أكتوبر، 2025 26
د. خالد مصطفى إسماعيل
كاتب صحفي
• كانت المدارس قليلة العدد، خاصة في المناطق الهامشية من السودان، وكان الدخول إليها نوعاً من الحظ لا أكثر ولا أقل. يوم القبول يوجد في ساحة المدرسة أعداد كبيرة من الأطفال الذين يأتي بهم أولياء أمورهم، في محاولة للحصول على فرصة للدخول إلى المدرسة، عدد يفوق طاقة أكثر من عشر مدارس، يأتون من القرى والفرقان ومن كل فج عميق، أملاً في الحصول على مقعد دراسي.
عمليات الفرز كانت تتم بطرق وآليات عديدة، حسب العمر، ثم حسب القرعة، وهكذا، ولكنها كانت عادلة ومُرضية للجميع، فالذي لم يجد حظه في هذا العام له عدة خيارات، فإما ترك فكرة المدرسة وذهب إلى الخلوة لحفظ القرآن، وإما دخل إلى الحياة مساعداً لوالده في الزراعة أو الرعي، وإما جرب حظه في العام القادم.
عمنا كودي عثمان كان محباً للعلم منذ صغره، ويحلم بأن يكون طالباً، وحتى عندما أصبح شاعراً ومغنياً شعبياً (طمباري) في منتصف عمره، كان يغني للمعلمات والطالبات، لا تخلو قصائده وأغنياته منهنّ ومن تمجيدهنّ، غنى لهنّ كما لم يغن لهنّ أحد من قبل، مما لفت الأنظار إليهنّ، وجعل المجتمع وأولياء الأمور يتقبلون فكرة تعليم المرأة، فدفعوا ببناتهم إلى المدارس، وبذلك ساهم في تعليم جيل من النساء.
كودي عثمان كان حلمه بأن يصبح طالباً دائماً ما يصطدم بمحدودية مقاعد الدراسة، ولكن لا مستحيل مع الإصرار، كان كودي عثمان نحيلاً، قصير القامة، ولكنه (ولد نجيض) كما كان ينعته أبوه دائماً، فكل الحي يعتمد عليه في المراسيل، خاصة المراسيل الصعبة إلى الدكان، فكان (مرسال) الحي منذ صغره.
وكان حلم الدخول إلى المدرسة يطارده في أي مكان، إلى أن تمكن في النهاية من تحقيق حلمه ودخول المدرسة، بعد عدة محاولات.
ولكي يحقق هذه الأمنية، ويجد فرصة للدراسة، اضطر لأن يقابل لجنة القبول ثلاث سنوات على التوالي، ففي السنة الأولى قالوا له إنك صغير في السن، لأنهم وجدوا أن أسنانه اللبنية لم تتكسر بعد، وفي السنة الثانية لم تقع القرعة عليه، فقد سحب ورقة فارغة، ثم حظي بالمقعد في السنة الثالثة وطار من الفرح.
كانت المدارس فيها نوع من الصرامة والانضباط، واحترام الوقت جزء أساسي من تقاليد المدرسة، فكل شيء في وقته، وأي تأخير عن أي شيء هناك عقوبة تنتظرك؛ ستعاقب مثلاً إذا تأخرت عن حصة النظافة، وهي الفترة الصباحية التي يقوم فيها جميع الطلاب بنظافة المدرسة بإشراف المعلمين، فالمدرسة ليس فيها عمال نظافة، ولكنها أنظف مكان بفضل طلابها، وهذا هو الدرس الثاني للطلاب بعد درس (احترام الوقت)، وهو درس (النظافة). والدرس الثالث هو (الجماعية في العمل)، فما هي إلا لحظات أقل من نصف ساعة حتى تصبح المدرسة كلها نظيفة تلمع من داخل الفصول وحتى الحوش بفضل العمل الجماعي. والدرس الرابع هو (التواضع والمساواة)، فكل طالب مهما كان وضعه الاجتماعي أو الاقتصادي، يجب أن يشارك في النظافة بالتساوي مع زملائه (فالناس سواسية في الحقوق والواجبات).
وهذه كلها دروس يتعلمها الطلاب بتلقائية خارج الفصل. ثم يأتي بعد ذلك طابور الصباح، حيث يصطف الطلبة بنظام وانتظام، كل أمام فصله في ساحة المدرسة، ويبرزون مواهبهم في البرنامج الصباحي، ويتعلمون الشجاعة الأدبية، ثم يخضعون أحياناً للتفتيش في النظافة الشخصية، (تاني نظافة؟)
(نعم تاني نظافة)، فالنظافة هي الدرس الدائم في المدرسة، فلكي تكون طالباً لا بدّ أن تكون نظيفاً في بدنك، ملابسك نظيفة، حالقاً شعرك بطريقة تليق بطالب، مقلّماً أظافرك، منظفاً حذاءك من الغبار، وهكذا.
الحصص مرتبة بزمنها، من الحصة الأولى، وحتى آخر حصة، وتتوسط الحصص فسحة الفطور، ليتناول فيها الطلاب وجبة الفطور ثم يعودون إلى الفصول مرة أخرى، ويستمر النظام والترتيب إلى أن ينتهي اليوم الدراسي، ويعود التلاميذ إلى منازلهم، لأخذ قسط من الراحة، ومراجعة دروسهم إن أمكن، ويخلدون إلى النوم، ليبدأ يوم جديد، وهكذا.
نعود لعمنا كودي عثمان، فقد تدرج في فصول المدرسة، وكان ذكياً نشيطاً نظيفاً ومحباً للعلم كعادته، نادراً ما تجده يتأخر أو يشاغب، فكان طالباً مثالياً. وفي يوم وبعد نهاية اليوم الدراسي، حمل شنطة كتبه، وقرر الذهاب إلى (الفريق) ليتفقد أبقار والده التي توجد خارج القرية على مسافة ليست بالقصيرة، لذلك حمل معه شنطته حتى يأتي إلى المدرسة مباشرة من الفريق، وصل إلى الفريق، وتناول مع الرعاة وجبة شهية مصنوعة من اللبن ودقيق الذرة، حكى لهم عن المدرسة، وحكوا له عن الخلاء و(السرحة)، فحمل قطعة من الفحم وكتب على صخرة ملساء (ذكرى من كودي عثمان)، ثم نقشها بحجر، ثم بعدها خلع الزي المدرسي وغسله جيداً، ثم علقه على الشوك حتى يجف، وخلد إلى النوم وهو يرتدي (سرواله) الداخلي فقط.
وفي الصباح كانت المصيبة والمفاجأة، فقد قامت إحدى الأبقار بأكل ملابسه التي غسلها ليلاً وهو نائم، (نعم أكلت الأبقار ملابس المدرسة)، وهو لا يملك غير زي مدرسي واحد، ولا يملك ملابس في الفريق أصلاً، ووقت المدرسة قد حان. ولا شيء أهم عنده من المدرسة. فماذا يفعل؟
فكراً قليلاً ثم حمل شنطته وذهب إلى المدرسة بلباس داخلي من قماش الدمور لا يكاد يصل ركبته، ولما وصل إلى المدرسة كان وقت الطابور الصباحي قد حان، فوقف في الطابور بثقة حاملاً شنطة كتبه وسط دهشة الطلاب، فانتبه المدير لذلك، وجاءه مستفسراً، فلما عرف قصته أدخله ليحضر الطابور من داخل المكتب، وأمر الجميع بالتصفيق له رداً لكرامته، ولقبه بلقب (أكثر شخص له رغبة في الدراسة في العالم) ثم قام بتكريمه.
أرجو من أصحاب القرار في العالم اعتماد هذا اللقب..
والسلام.
شارك المقال
