• بالدماء تُبنى الحضارات، كل حرب تندلع تؤكد لنا أن الحياة معارك، وأن الحضارات تُكتب على صفحات التاريخ؛ عندما تحتدم المعارك ويُرفع السلاح في وجه العدو، وترتوي الأرض بدمائهم، وتختلط حبيبات الرمل في الصحراء بأشلائهم، وتسقط رماحهم، ويسقط معها الحقد والغل الذي يحمله العدو على أوطاننا.
على بُعد آلاف السنين، وقبل الميلاد بأربعين عامًا، أشرقت الشمس على أرض الملوك الكوشيين، وأعلنت لهم ميلاد الكنداكة ريناس، كان يومًا مميزًا بميلادها، وتفاءل كل الكوشيين بقدومها، وتوقع لها المنجّمون مستقبلًا باهرًا، وأنها ستنهض بمملكتهم عندما تكبر، وتخطو برجليها على ضفاف نهر النيل، وتمتلئ روحها وأنفاسها بأكسجين الطبيعة الحرة الخضراء، وترتوي بماء النيل لتتصف بصفاته العظيمة من القوة والفيضان، وأحيانًا يكون شديد الهيجان، يحمل في طياته كثيرًا من الطمي لكل منطقة فقيرة تحتاج لمزيد من الأراضي الخصبة، لينهض أبناؤه «أبناء النيل» ويبنوا حضاراتهم على ضفافه.
هكذا وقد كانت الكنداكة ريناس كما توقعها الكوشيون، تخرج في الصباح وتنظر إلى مملكتها بكل حب، وتنسج من خيوط الشمس الذهبية قلعتها التي حلمت بها، ونظرت بعيدًا وتمنت أقصى الشمال كجزء ممتد لبلادها.
في مملكة كوش تميز الكوشيون بالعمل الجاد، وهذا ما نقشوه على جدران أهراماتهم، ونقلوه لنا عبر التاريخ.
جميع الكوشيين كانوا يتحدثون عن الكنداكة أماني ريناس، ويتهامسون بطموحاتها ونظرتها البعيدة المستقبلية، وما زاد إعجاب كثير من الفتيان الكوشيين بها اتحاد جمالها الخارجي والداخلي، فكانت عيناها تلمعان بالأفكار وتشعّان بحبٍ كبير لمملكتها.
صادف طموحها هذا وحبها للكوشيين مع حب الملك النوبي (ترتيقاس) لأرضه، وطموحه بالنهوض بمملكة عظيمة على مرّ التاريخ. فتزوجا، وعاشت الكنداكة جنبًا إلى جنب مع زوجها، وظلت كنداكة (الملكة الأم) إلى أن تُوفي زوجها، وبعدها أصبحت الملكة القائدة لمملكة الكوشيين في مروي، وحكمت المملكة مدة ثلاثين عامًا قبل الميلاد، ونهضت بشعبها، وحاربت معه جنبًا إلى جنب، وكان ابنها أكينيدا محاربًا معها، وهزمت وأجبرت الرومان على توقيع اتفاقية سلام معهم، فانصاع الرومان للاتفاقية، لأنهم أدركوا أنهم لا يستطيعون هزيمتها ولا كسر شوكتها.
عاشت الملكة عظيمة بين شعبها إلى أن توفيت ودُفنت في أرض البركل، وزيّنت شمال السودان بفتوحاتها ونصرها.