محمد المهدي

محمد المهدي الأمين

مستشار التحرير وكاتب صحفي

• كانت أمدرمان حكاية

وكان غنا أمدرمان محنة

وكان زمان الناس مودة

وكان شعار أهل المحبة إذا لقوا المحبوب سلام

كلمات صادقة  ومعبِّرة، صاغها الشاعر الكبير عمر أحمد قدور، وأجاد وأبدع في غنائها الراحل صديق الكحلاوي. وكأنّ الشاعر كُشفت له  الحُجب، ورأى بعين البصيرة أمدر الحبيبة، وما سيحلّ بها من مصاب جلل. فعندما دارت رحى الحرب ظلّ جزء عزيز من أمدرمان صامداً، ووفد إليه النازحون من جحيم المعارك، فوجدوا الأمان ووجدوا أمدرمان التي حدّث عنها الشاعر قدور، وغنى لها الفنان الكحلاوي. إضافة إلى الكثير من الشعراء والفنانين الذين تغنوا بأمدرمان ولأمدرمان. 

كانت أمدرمان حكاية، كانت تعيش في أمان، بيوتها كلها خير، وهي مفتوحة للجميع، أبوابها لا تغلق. إنسانها لا ينتمي إلا إليها فهو (ود أمدرمان)، لا يطلقونها غروراً ولا تعالياً، بل إعلان انتماء لهذا السودان المصغر (البقعة)، التي تفرض على أبنائها قيماً لا بدّ من التمسك بها. 

وهذه إشارات مضيئة لبعض حكايات أبناء أمدرمان: 

* كان سوق أمدرمان عامراً بالبضائع ذات الجودة، وتجاره يتحرّون الكسب الحلال، فلا غش، ولا مغالاة، ولا كذب، ديدنهم الخوف من الله، والالتزام بالشرع والأخلاق الحميدة في المعاملات. علماً بأن من بينهم هنود وأقباط وحضارمة، لكنهم أمدرمانيون مولداً ونشأة وتطبعاً. 

* عدد من (البكاسي) يرابط أصحابها أمام مستشفى أمدرمان، متطوعين لنقل المتوفين إلى مناطقهم، ولو كان سفراً بعيداً، ومنهم من يوفّر الأكفان،  ويغسل الموتى. 

* هناك صيدلية في سوق أمدرمان اشتهر صاحبها بأنه يوفر الدواء مجاناً لكل من لا يقصده، فكثيرون يسألون عن مكان الصيدلية ولا يعرفون اسم صاحبها الذي يستقبل ذوي الحاجات متهللاً، ويوفر لهم الدواء مهما كان ثمنه، دون منٍّ أو أذى. 

* شيخ الحلاقين في أمدرمان يحمل حقيبته يوم الجمعة من كل أسبوع، متوجهاً إلى مستشفى أمدرمان، يمرُّ على العنابر، يزيِّن لكل المرضى متطوعاً. 

*  أمدرمان تعجّ بتجمعات دينية وثقافية وفنية ورياضية وسياسية. تعلّم القرآن والعلوم الشرعية، وتنشر الأدب والثقافة، والفن الأصيل، وضروب الرياضة. 

* أمّا الآن فقد تبدلت الحال،  ولم تعد أمدرمان سلام كما كانت تنعم بالأمن، فالسلاح منتشر في أرجائها، والمتفلتون يمارسون النهب المسلح، وينشرون الرعب، يقتلون الناس من دون رحمة، لا يفرّقون بين طفل ورجل، ولا يهم إذا كان الضحية شاباً أو شيخاً، المهم نهب المال أو الجوال، فأرواح البشر صارت أرخص من التراب. 

* إن مكبرات الصوت التي كانت تنقل إلى مسامع الناس غناء الكحلاوي ومحمد أحمد عوض وعمالقة الفن، ما عادت تنقل غير مسخٍ مشوّهٍ، كلمات لا طعم لها، وصياح وابتذال، ويعكر صفو   لياليها صوت الرصاص المنهمر كالمطر، فالموت الآن إما بطلقة رصاصة طائشة أطلقها شخص مستهتر في مناسبة، وإما بطلقة من متفلتين أمنوا العقاب، وهاهي  أمدرمان يعتصرها الأسى، تتساءل عن الذي يجري، وهل ستعود أمدرمان محبة وأمناً. 

* حتماً ستعود أمدرمان تهدي الناس سلام. وستعود المودة والمحبة والأمان، ولن يطول الليل الحالك.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *