cover
Picture of كمال باشري - القاهرة

كمال باشري - القاهرة

• (رسالة الي الوالد) كلماتٌ صيغت في نهاية القرن التاسع عشر لتُعبر عن حياةٍ عاشها رجلٌ في براغ وجدتُها مرآةً لعلاقةٍ شكّلتني أنا المولود في النصف الثاني من القرن العشرين، على بعد آلاف الأميال. 

لم تكن صدفة عابرة بل كانت صدمة حقيقية إذ كيف يمكن لتجربتين يفصلهما قرنٌ من الزمان أن تتطابقا بهذا الشكل الغريب؟

​كافكا في رسالته لم يكتب عن أبيه فقط بل عن السلطة الأبوية التي تتخذ من النقد واللوم سلاحًا، عن الأب الذي يفرض سطوته لا ليُعلّم بل ليُخضع و يُطالب ابنه بالقوة والصلابة بينما هو نفسه يرى فيه ضعفًا وعجزًا أبديًا. 

 رأيتُ في وصف كافكا لوالده (هيرمان كافكا) صورةً لا تُخطئُها عيني: صوتٌ عالٍ يملأ الفراغ، كلماتٌ لاذعةٌ تحفر في الروح، وحبٌ مشروطٌ لم أستطع يومًا أن أستشعره​ وهنا تمامًا بدأت حكايتي في التشابه وكأن التاريخ أعاد صياغة سيناريو كافكا معي لكن بأسماء  و تعابير مختلفة  . 

العلاقة مع والدي لم تكن عداوة بل كانت صراعاً وجودياً. كان صراعاً بين ما أكون وما يجب أن أكون في نظره. كان صراعاً بين شخصيتي الهشة التي تشبه كافكا وشخصية الأب القوية التي لم تتقبل يوماً هشاشتي. كان كل حديثٍ معه محاكمة وكل رأيٍ أبديته جريمة، وكان مصير أي قرار اتخذته خارج إرادته هو الفشل المُسبق.

​لقد تركت هذه التجربة أثراً حيوياً، ليس فقط في روحي بل في تكويني كله ومثلما أثّرت هذه العلاقة في أدب كافكا وجعلته يكتب عن غربة «المسخ»، وعن العجز أمام قوانين «المحاكمة»، أثرت فيّ أنا و جعلتني أُعاني من نفس الشعور بالغربة في عالمي الخاص، و نفس إحساس الخوف من الفشل والعجز. لقد أصبح العالم كله في نظري محاكمة كبيرة أدافع فيها عن نفسي، عن قراراتي، وعن وجودي.

​عندما قال كافكا إن دستويفسكي وآخرين هم إخوته في الدم، لأنه وجد فيهم تعبيراً عن نفسه، لم يكن يبالغ فقد عرفتُ هذا الشعور بنفسي فكافكا الذي لم ألتقِ به يوماً ولم أقرأ له رسالة موجهة إليّ شخصياً  صار أخاً في الدم  بالصوت الذي لم أكن أمتلكه، وقدم لي تفسيراً لمشاعرٍ لم أستطع فك شفرتها

​والمفارقة أنني اليوم وبعد كل هذا الوقت أجد في قراءة هذه الرسالة ليس مجرد تعبير عن الألم بل نوعاً من السلام، سلامٌ يأتي من معرفة أنك لست وحدك، وأن هناك من سار في نفس الطريق قبلك بمائة عام وترك لك خريطةً تفكّ رموزها الآن.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *