قيمة الوطن حين يُجرَح: الغربة، الحرب، والحنين الذي لا يموت
Admin 5 يونيو، 2025 100
أ. د. فيصل محمد فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
نبض الحياة في تفاصيلٍ يومية
• السودان بالنسبة إلينا ليس مجرد بلد، بل هو نبض في القلب، وحبٌّ يتغلغل في الأعماق ويملأ الروح. هو رائحة الطين بعد المطر، تلك الرائحة التي تحيي الأمل وتعيد الحياة إلى الأرض، وهو ضحكة الطفل الحافي الذي يركض بحرية في الشوارع، ضاحكًا بلا همّ، نابضًا بالفرح.
في زحمة الحياة ومع كثرة المشاغل، قد يغيب عنّا تقدير الكثير من النعم البسيطة التي تحيط بنا، حتى نفقدها أو نبتعد عنها. هذا ما يحدث للكثيرين، وخاصة السودانيين الذين دفعتهم ظروف الحياة للاغتراب عن وطنهم، ليكتشفوا بعد البعد أنّ السودان يحمل كنوزًا لا تضاهى، وتفاصيل يومية تمسّ الروح وتضفي جمالًا على الحياة، وتبقى محفورة في الذاكرة.
السودان هو صوت الحبوبات، وهن يحكين القصص القديمة تحت ضوء القمر، ينسجن لنا حكايات وقصصًا ترويها الأجيال. هو الحنية التي تتجلى في عيون ناسه، والمحبة التي تراها في الأيادي الممدودة بالعون والمودة، الصبر الذي يملأ القلب ويعلّمنا أن نصمد ونثابر، مهما كانت قسوة الحياة.
السودان، بتراثه وطبيعته، مليء بتفاصيل صغيرة تتغلغل في الوجدان. من أبرزها مياه النيل العذبة التي تروي الأرواح قبل الأجساد، حيث يتذكر السودانيون طعمها الفريد وهم يتناولونها بين أفراد عائلاتهم. يُحكى عن تلك المياه بقدر كبير من الحنين، وعن الصفاء الذي يشعر به الإنسان عندما يحتسيها، وهو شيء لا يدرك قيمته تمامًا إلا حين يبتعد عنها.
السودان هو النيل الذي ينبض بالحياة، يسقي الأرض ويهب الحياة، والنخيل الشامخ الذي يقف بصلابة، لا تهزه رياح، بل يحكي لنا عن قوة الجذور وعمقها. هو الصحراء الواسعة التي تحفظ أسرار الأجداد وقصصهم منذ قديم الزمان، تذكير لنا بوصاياهم على الوطن وأرضه. وإلى جانب هذا، هناك عشق السودانيين للشاي بنكهاته الخاصة مثل «الغزالتين»، و»سفاري»، و»التمساح»، التي تحمل نكهة مميزة وسحرًا يعبر عن الدفء والألفة. هذا الشاي ليس مجرد مشروب؛ إنه جزء من الهوية السودانية، حيث يجمع الناس في لحظات محببة ولحظات هادئة تحمل في طياتها أصالة عريقة.
أما الأطعمة السودانية، فهي تحتل مكانة خاصة في قلوب السودانيين، بدءًا من طبق الفول بزيت السمسم والجرجير، و»أم فتفت» بشطتها الحارة، والشية ببهاراتها، والرجلة بالكِسرة المرة، والتقلية، والدمعة مع القراصة، إلى «طحنية المشرف» وحلويات «سعد». كلها ليست أطعمة فحسب، بل ذاكرة متجذرة تعيدنا إلى لحظات الطفولة ودفء العائلة.
ولا تكتمل الأجواء السودانية إلا بلمة الأهل حول الجبنة وقت العصر، أو شاي اللبن عند المغيب، حين تذوب الحروف بين فناجين المحبة، وتصبح الكلمات جسورًا بين الأجيال، تنقل الحنين وتنثر البركة.
صرخة الحرب وشتات النفوس
لكن وسط هذا الجمال، جاءت الحرب، وجاء معها الشتات والفقد. منذ أبريل 2023، تغيّر وجه السودان. تحولت الشوارع إلى ساحات معارك، وتحولت الأحياء إلى رماد. كثيرون فرّوا بأرواحهم، وآخرون لا يزالون عالقين في جحيم لا يرحم.
في لحظات الحرب، تظهر التفاصيل التي نحبها كأنها حلم بعيد. صوت الأذان من مسجد الحي، ضحكات الجيران وقت انقطاع التيار الكهربائي، بائعة الكِسرة صباح الجمعة، وهدوء
العصر في الأزقة… كلها تتحول إلى مشاهد نستنجد بها كي لا نفقد توازننا. الغربة التي كانت اختيارًا أصبحت قدرًا. بل صارت ملاذًا من نار الداخل، لكنها نار من نوع آخر: نار الفقد، نار الغربة، نار الحنين الذي لا يخبو.
وفي هذه الغربة، تتجلى قيمة الوطن أكثر من أي وقت مضى. من يعش في الغربة اليوم، لا يشتاق لترفٍ ولا مظاهر، بل يشتاق إلى الأمان، إلى وجوه الناس، إلى رائحة الخبز في الفجر، إلى سلام البال. فالوطن ليس جغرافيا فقط، بل معنى، شعور، دفء، وهوية لا تموت.
وبين كل هذا الألم، ينهض سؤال الأمل: ما الذي يمكن أن يُبنى على هذا الخراب؟ هل يمكن أن تتحول الغربة إلى خبرة؟ هل يمكن أن يعود الناجون لبناء وطن جديد، أكثر عدلًا وإنسانية؟
نعم، يمكن. ما دمنا نحمل السودان في قلوبنا، ونروي أبناءنا بقصصه، ونتذكره لا كندبة، بل كنداء… فالوطن سيعود. ربما ليس بالشوارع نفسها، لكن بالروح نفسها. سيعود حين نستعيد ثقتنا ببعضنا، حين نغرس بذور المصالحة، وحين نؤمن أن المستقبل يُبنى لا بالحنين وحده، بل بالفعل والحب والمسؤولية.
مبادرات الأمل في الشتات والوطن
فلنحمل الوطن معنا، لا كألم فقط، بل كمشروع حي. فلنُرِ العالم أن السودان، وإن جُرح، لا يموت. وأن أبناءه، وإن تفرقوا، سيجمعهم يومًا شاي على نيل، وكِسرة على حافة ضوء، وضحكة تطفئ نار الحرب، وتوقظ فينا إنسانيتنا من جديد.
ورغم كل هذه الآلام، يظل في القلب شعاع لا ينطفئ. شعاع اسمه «الأمل»، نتمسك به كما يتمسك الغريق بخشبة صغيرة في محيط من الفقد. الأمل هو ألا تظل الحرب هي الحكاية الوحيدة عن السودان، بل نكتب فصلًا جديدًا من الصبر والصمود والنهوض.
إن المأساة التي نعيشها اليوم، رغم قسوتها، تُشكّل لحظة وعي. فالوطن لا يُبنى بالحنين فقط، بل بالفعل الجماعي. وها نحن، في الداخل والخارج، نحمل على عاتقنا مسؤولية الحفاظ على ما تبقى من روحه. نكتب، نوثِّق، نعلم أبناءنا، نبادر، نحشد الموارد، نبني شبكات دعم، نُطلِق مبادرات للسلام وللتعليم والإغاثة. نعيد تعريف الوطنية لا بالكلمات، بل بالمواقف.
ويبرز هنا دور الشتات السوداني المنتشر في أصقاع الأرض. لم تعد الجاليات مجرد أفراد يسكنون المنافي، بل صاروا شريانًا موازيًا يمد الوطن بالحياة: بحملات الإغاثة، بالمنح الدراسية، بالمناصرة السياسية، وبالمطالبة المستمرة بالعدالة والمساءلة. أصبح الشتات ذا صوت ووزن، يتحدث باسم من لا صوت لهم تحت الركام.
كما أن المرأة السودانية، التي كانت دومًا حارسة النار في البيوت والذاكرة، أثبتت في زمن الحرب أنها حارسة الحياة أيضًا. من داخل المناطق المحاصرة، ومن خطوط النزوح، ومن شتات العالم، ترفع صوتها عاليًا وهي تقود جهود الإغاثة، وتدير حملات الدعم، وتبني الأمل في قلوب أطفالها وتعلمهم أن الوطن سيعود مهما طال الليل.
أما الشباب، فهم قلب المعركة وروح النهضة. أولئك الذين رفعوا رايات الثورة، لن ينكسروا الآن. نعم، خذلتهم السياسة وتآمر الكبار، لكنهم لا يزالون الحالمين، والمبدعين، والفاعلين في العالم الرقمي، وفي ساحات العمل المدني، وفي المبادرات المحلية والدولية.
وإذا كنا قد تعلمنا من الغربة قيمة الوطن، فلنتعلم من الحرب قيمة السلام، ولنعلِّم أطفالنا أن الكرامة ليست شعارًا، بل حق يُنتزع ويُبنى عليه المستقبل.
الحرب ليست قدرنا الأبدي. ويمكن للسودان أن يعود كما عرفناه، بل وأجمل، إذا امتلكنا الشجاعة الكافية لننظر للماضي بعين النقد، وللحاضر بعين المسؤولية، وللمستقبل بعين الإبداع.
فلنحمل الوطن في قلوبنا لا كندبة، بل كنداء. لنقل لأبنائنا إن بلادهم لا تزال تنبض، وإن جراحها قابلة للشفاء، وإنهم ليسوا أبناء الحرب فقط، بل أبناء الحياة.
وربما أهم ما تعلّمنا من هذه المحنة، أن الوطن لا يُختزل في الأرض وحدها، بل في الإنسان الذي يحمله في قلبه ويترجمه سلوكًا وأخلاقًا، أينما وُجد. في طريقة تعاملنا مع بعضنا، في تضامننا، في حفاظنا على لغتنا ولهجتنا، في التمسك بعاداتنا وتقاليدنا حتى ونحن نعيش في عوالم مختلفة. الوطن هو تلك المبادئ التي تربينا عليها: الحياء، الشهامة، النخوة، احترام الكبير، ونصرة المظلوم.
من المؤلم أن نرى بعض المدن تنهار، ولكن الأجمل أن نرى الضمير السوداني لا ينهار. من بين الركام، يخرج شاب ينقذ عجوزًا، وسيدة توزع الطعام، وطبيب يعمل بلا أجر. من بين الدماء، تخرج قصائد ومواويل، ويكتب شاعر للذين صمدوا، وتغني مغنية في المهجر للسودان الحبيب الذي لا يغيب.
الوطن لن يعود فقط حين تنتهي الحرب، بل حين نبدأ جميعًا في معركة البناء النفسي، والإصلاح الاجتماعي، والترميم الأخلاقي. وحين نُعيد تعريف معنى أن نكون «سودانيين»: لا بالقبيلة، ولا بالانتماء الجغرافي، بل بالانتماء الإنساني لأرض علّمتنا الحنان، فهل نرد لها الجميل؟
السودان وطن يُجرَح، لكنه لا يموت!
شارك المقال