
بابكر الوسيلة
• اليوم، وعند السَّاعة الثَّانية عشرة ظهراً، قرَّر أن يموت. كان هذا هو قرارُه الحاسمُ والأخيرُ دون سابق تفكير حتَّى، ودون أي تحسُّبٍ ربَّما يكون جارفاً لما يمكن أن يؤول إليه مثلُ هذه القرارات الَّتي تأتي بطاقةِ القَدَر الكامنةِ عند.الإنسان. الذَّهاب برجلَيهِ الحافيتَينِ إلى عناق الموت، قرارٌ لا رجعةَ فيه. وضع للموت صورةَ عاشقٍ سيُعانقهُ في حديقةٍ عامَّة، وفي موعدٍ كان قد حدَّده هو لا الموت. سيأتي العاشقُ/ الموتُ أو الموتُ/العاشقُ من مكانٍ ما من الكون، وسيذهب هو من غرفته هذه ليتقابلا عند السَّاعة الثًّانية عشرة ظهراً.
لم يكن مضطَّرباً نفسيَّاً أبداً كما قد يُخيَّلُ للبعض ممًّن يدعوهم تعجُّلُهم لاتَّخاذ الرَّأي الأوحد، بل كان في غاية الطَّرب مع الحياة، وفجأة قرَّر الذَّهاب إلى الطَّرف الآخَر منها في لعبة كان يعرِفها جيِّداً منذ أن خطا على عتبات درج الطُّفولة، مات أبوه حينها فتنبَّه للُّعبةِ الكبرى للموت كلُعبةٍ من ضمن ألعاب طفولته.
الآن، السَّاعة السَّادسة صباحاً، هناك ستُّ ساعاتٍ من التَّرقُّب الجميل مع موعده، موعدِ الموت.
جلس أمام كومة من الأوراق الَّتي كتبها على سطور العمر. ثلاثون عاماً من معانقة المستحيل ومحاولةِ سبرِ أغوارِ الخيالِ بالكتابة: شِعر، قصَّة، رواية، مذكِّرات يوميَّة؛ ولكنَّ الأهمَّ من كلِّ ذلك هو رسائلُه المتعدِّدة والمتنوِّعة لحبيبته الوحيدةِ طوال ذلك العمر الثَّلاثيني، إذ كان يعتقد (كما ذكر ذلك في إحدى رسائله لها) أنَّه وُلد وعلى صدره كلمةٌ «أُحبُّك» مكتوبةٌ بخُيُوطٍ رقيقةٍ من نور، كان ذلك (كما أدرك فيما بعد) هو الرِّسالة الأولى لمن أحبَّها بكلِّ دقائق الحياة ومكامِنِها في المكان.
أمام كومة الأوراقِ كان عرَقُه يتصبَّبُ، بل دموعُه، بل أنَّ أيَّامَه كلَّها كانت تتصبَّب. قضى عمراً كاملاً يبحث عن لؤلؤة المعنى في جوف الكتابة ولم يعثُرْ عليها حتَّى هذه اللَّحظة.
الذِّكرياتُ لم تكن طفيفةً أبداً حتَّى تتسارعَ ساعاتُه إلى الموعد، بل كانت ثقيلةً ككفَّةِ الموت. جلس ساعاتِه السِّتَّ كمَن يجلس عمراً كاملاً في ضفاف الأبديَّة دون أن يصطادَ المعنى الكامن وراء حياته.
قلَّب الأوراقَ، أوراقَهُ المبعثَرةَ كأيَّامه مع الزَّمن، لكنَّه في لحظةٍ قرَّر أن يذهبَ إلى «ميري» لجلب ما يُعينه على التَّذكُّرِ والمُوافاةِ ببواطن الذِّكريات. خرج من كومة أوراقه حافياً. شارع شارعان، وكانت مُعيناتُه تحت قميصه الأبيضِ تنبِض.
جلس في غرفته للمرَّة الثَّانية أمام كومة ذكرياته المكتوبة، ولكن بروحٍ خفيفةٍ هذه المرَّة وبدمعٍ أثقل.
فتح الورقة الأولى كمَن يَفتتِحُ مسرحاً من الأشواق. وبالصُّدفةِ العجيبةِ، كانت هي الرِّسالةَ الأولى الَّتي كتبها، أو بالأحرى حفرها، لحبيبته: « مريم.. أنا أحبُّكِ وسأموت معك».
حين نزف هذه الرِّسالة، غمرتْه دموعٌ تموَّجت بين الحبِّ والخسران. كان كلُّ ما فعله على عجلٍ، هو طيُّ هذه الرِّسالةِ في باطنِ الكتمانِ حتَّى لنفسه، ومحاولةُ قراءةِ الرِّسالةِ الثَّانيةِ بدمعٍ أقل»مريم.. أرجو أن تَذكُريني دائماً أمام عينيكِ الباكيتَينِ، فالبكاءُ عن حبٍّ وطهارة، هو الوسيلةُ الأنجعُ للتَّذكُّر.. يمكنُكِ أن تستعيني بمرآتي المتخيَّلة أمام وجهك»
حين قرأ هذه الرِّسالةَ ضحك ضحكةً مجلجِلة، وهي عكس ما كان يدعو له حبيبتَه من سكْبِ البكاء. «الحياةُ سرُّ كبير لا نكتشفُه إلَّا في لحظةِ مُواجهةِ الموت»، هكذا قال لنفسه المهترِئة في تلك اللَّحظة.
مضت ساعةٌ من الوقت على الموعد، تذكَّر عبارتَه الشِّعريَّةَ تلك «كلُّما صعَدَ العمرُ بنا، سقطت منَّا الحياة». الآن، كان عليه أن يبكي قليلاً على أشياء لم يعُدْ يتذكَّرُها، أشياء بحجم الحبِّ مثلاً، أشياء اندثرت في تربة روحهِ وصارت من معادن النَّفسِ الثَّمينةِ الَّتي عليه اكتشافُها ونبشُها في هذه السَّاعات من لقاء الموتِ المرتقَب.
نفض الأوراقَ عن يده وذهب ليَجلسَ على أريكةٍبيضاءَ في الغرفة. أمامه كانتِ الأوراقُ تتهادى بألوانٍ شتَّى وتُرفرفُ بهواء مِروَحةِ السَّقف. في هذه اللَّحظة، شعرَ بأنَّ عليه أن يُغادرَ العالمَ بهدوءٍ دون أن يمسَسَها بسوء، هذه الأوراق، وكان قبلها قد فكَّر في حرقها ورقةً ورقةً، وهو يقصُدُ ذكرى فذكرى من أيَّام عمره الموبوء بالذِّكريات، غير أنَّه سُرعان ما عاود الجُلُوسَ الهادئ المتموِّج أمام أوراقه. فتح ورقةً فوجد أبياتاً من قصيدة. قرأها في عجلةٍ من سرِّه. لأوَّل مرَّةٍ لم يُحِسَّ بنشوى الشِّعر تجري بين عُرُوقه، ولأوَّل مرَّةٍ قال في سرِّهِ إنَّ المجهودَ العاطفيَّ الَّذي بذله في كتابة رسائله لحبيبته، كان أكثرَ شاعريَّةً من كلِّ ما كتب من قصائد. هكذا ادَّخرتْهُ عاطفةُ الذِّكريات ليكتشفَ أنَّ الشِّعرَ ما هو إلَّا تلك القُبلُ الَّتي امتصَّها في النَّهارات الحارَّة، وشربها ككحولٍ دافئةٍ في ليالي الشِّتاء الموحشة.
فتح ورقةً إثر ورقةٍ، لكنَّه كان يتبلَّلُ بالدَّمع الصَّموت مع اقتراب موعدهِ مع الموت.
الآن مرَّت أربعُ ساعاتٍ، ولم يكن يعرِفُ فيمَ سيقضي ساعتيهِ المتبقِّيتينِ وكيف. فكَّر أن يذهبَ إلى الأماكن الَّتي أحبَّها ليُودِّعَها، لكنَّ الوقت لم يكن ليُسعفَه. فكَّر أن يُسافرَ للأزمان الِّتي قضى فيها أنبلَ لحظات الحب، لكنَّ الوقتَ لم يكن ليُسعفَه.
أمام الأوراق، خلعَ كلَّ ما كان يرتديهِ وأصبح عارياً، عارياً تماماً مثلَما كان في سرير حبيبتهِ في تلك الظَّهيرة، عند السَّاعة الثَّانية عشرة بالضَّبط.
شارك القصة