
بقلم: د. ريم أحمد محمود ادريس
• صديقي العزيز.. أطيب التهاني بمناسبة عيد ميلادك السعيد! لقد عشت عمرا من النجاح و الإخلاص، حتما ستفخر به دائما.
لم ألتقيك مؤخرا، بعد ذلك اليوم المشؤوم الذي حكم فيه عليك بالإعدام.
لقد أخبرني محاميك أنه قدم طلب استئناف ليحصل لك على حكم مخفف، لكنه أكد لي بأنه لن يكون أخف من المؤبد مع الأعمال الشاقة؛ بمعنى أنك لن تخرج من السجن أبدا..
أؤكد لك أن انعطافا كبيرا قد جعل الأحداث تتسارع و تنقلب ضدك كما أخبرني محاميك، فقد قال أنه كان من الممكن أن تخرج منها على أكثر تقدير بحكم لا يتجاوز الحبس لعشر سنوات، و من المحتمل عندها أن يطلقوا سراحك قبل إتمامها إذا استطعت إثبات حسن السير أو.. أو قدمت لهم معلومات تمكنهم من القبض على أعضاء خليتك المحرمة.. و لكن آسف يا صديقي لم يعد ذلك ممكنا بعد أن حصلوا على دليل إدانتك مع الوثائق الممهورة بخط يدك و إمضائك و تلك التسجيلات التي توثق اجتماعاتك السرية بجماعة العنق الأحمر المحرمة في البلاد.. إنه دليل دامغ و قوي و لا يمكن بعده التأثير على رأي المحكمة، خصوصا أن الأمور قد تعقدت كثيرا، فبعد أن كانت قضية سياسية فقط؛ تحولت إلى قضية رأي عام و صار نصف الشعب يطالب بإعدامك.
ماذا دهاك؟! كيف و متى انضممت إلى تلك الجماعة الخطرة؟ و كيف لم أعرف بذلك في أي يوم؟! لماذا لم تخبرني وأنا صديقك منذ أكثر من عشرين سنة؟! هل أنت مخلص في كل شيء هكذا و هل ثروتك أيضا جاءت من خلال هذا الإخلاص؟!. لقد كنت صديقا رائعا و أخا وفيا دوما.. كنت الأقرب إلي.. لقد وثقت بك كما وثقت أنت بي أيضا، و قربتني منك حتى غدوت كأحد أفراد أسرتك.. كانت تؤطرنا الصور في معظم المناسبات.. دائما أنا بجانبك الأيمن قريبا منك و ملتصقا بك كما كانت هي أيضا على جانبك الأيسر قريبة منك و ملتصقة بك.. هل انتبهت من قبل إلى الصور؟! .. لا، لا.. لا أعني وجودي و وجودها في كل صورك، فأنا صديق عمرك و هي زوجتك و من الطبيعي أن نكون مشاهدين في معظم صورك.. ما أعنيه هو.. ألم تلحظ نظراتنا أنا وهي؟! اه هل كنت مشغولا بالعمل أكثر من الانتباه إلى عينيها؟! لحظة سأتوقف هنا لأشعل سيجارة.. لحظة واحدة فقط.. أعذرني فإنني متوتر… ها قد عدت.. لنكمل،
إذا تجاوزنا أن تلكم العينين كانتا جميلتين جدا.. كانتا حالكتي السواد و مسورتين بأهداب كثيفة و طويلة، يظلهما حاجبان عريضان من البداية و مستدقان من النهاية، يكادان يتلامسان عند المنتصف كجناحي عنقاء أعلى أنفها الأخنس.. كانت بهيئتها تلك تشبه قطة سيامي مدللة، رقيقة و شرسة في ذات الوقت، و أؤكد لك بأنها لم تكن تملك نظرات القطة فقط بل و دهائها أيضا.. كانت رشيقة الجسد و لينة الأذرع تتحرك و تتلوى بنعومة و خفة.. هل كانت تمارس اليوغا منذ نعومة أظفارها أو تتبع حمية غذائية صارمة؟! أنت أدرى مني بجسدها، أما كيف صرت أنا أعرف كل ذلك عنه؟! فتلك قصة طويلة سأرويها لك.
* * * * *
كان الليل باردا جدا، حالكا و أصما إلا من صوت بوم عجوز محنك قد عاد توا من رحلة صيد ناجحة بفأر سمين مذعور، أخذ يمزقه بمخالبه القوية و منقاره الحاد، فوق شجرة النيم العالية أمام مبنى العمارة.. لعله انقض عليه و هو يتسلق أحد أنابيب التصريف أو وهو يلهو مع رفيقته على السطح، المهم لقد لقي الشقي ما يستحق في النهاية.
كنت أرتدي سترة شتوية سميكة سوداء مع قبعة و قفازين و قد أوقفت سيارتي بعيدا.
قالت « في الخارج على يمين المبنى توجد غرفة الحارس، فتى عشريني ساذج، يعمل في النهار في تنظيف المكتب و إعداد الشاي و القهوة للزبائن و يقضي باقي يومه بين المراسلات و إحضار الطلبات.. كن حذرا حتى لا توقظه، وفي الغالب سيكون في سبات عميق في هذه الأثناء؛ لأنني استدعيته في المساء لأعطيه بعض المؤن كما كان يفعل زوجي، و لم أنس بالطبع أن ألف له بين الأغراض وجبة العشاء.. دجاجة مشوية مع زجاجة كبيرة من المشروب أذبت داخلها قرصا منوما قويا.. لن يفيق قبل ثلاث ساعات على الأرجح.. و مع ذلك كن حذرا و سريعا فالشيء الأهم من الذكاء هو السرعة «.. أغمضت عينيها بدلال ماكر وهي تقولها.. من يستطيع ألا يقع أسير تلكم العينين؟! إنهما تشعان سحرا يسلبك الإرادة؛ فتنفذ كل أوامرها.. إنه سحر وردي ناعم يقتلك ببطء شديد دون أن تعي ذلك.
« تذكر أن تحتفظ بالقفل الكبير في جيب سترتك «استطردت..» الآن ارفع باب السحاب الخارجي ببطء و لا ترفعه كثيرا، فليكن فقط بالقدر الذي يسمح لك بفتح باب الزجاج الداخلي، استعمل المفتاح الأحمر.. ادخل بهدوووء.»
كنت طوال الوقت أجول بناظري بين عينيها و فمها ذو الشفاه الوردية الناعمة و هي تخط الخطة تحت ضوء الشموع و تمرر أصابعها الرقيقة على الخريطة .. كانت ثمة خصلة تتأرجح على جبينها.. أليست فاتنة هي؟ عندما تضم شفتيها فتبدوان كوردة اقحوان كي تلفظ من بين بتلاتها كلمة (بهدوووء). استطردت « استمر في المضي قدما حتى المصعد.. لا تحاول استخدامه! انعطف ناحية الدرج و اصعد حتى الطابق الثالث .. ها هي الشقة عن يمين الدرج.. استخدم المفتاح الأصفر لفتح الباب، ستجد نفسك أمام بهو تفتح داخله ثلاث غرف مع مطبخ و حمام.. اتجه فورا إلى الحمام، استخدم المفك الصغير لانتزاع واجهة علبة المقبس الكهربائي، سترى بداخلها لفافة بلاستيك صغيرة كجراب صورة أشعة الأسنان محفوظ بداخلها مفتاح الخزنة رقم تسعة، اذهب مباشرة إلى الغرفة في آخر البهو.. افتح الباب مستخدما المفتاح الأخضر..في الداخل ستلاحظ الكثير من الأرفف و الخزائن الحديدية المرقمة.. توقف عن الدهشة! ابحث بسرعة عن الخزنة رقم تسعة.. افتحها.. بها عدد من المظاريف الملونة.. أخرج الظرف الأسود.. تحسسه يوجد بداخله قرص مدمج و بعض الملفات.. لا تضيع الوقت! احتفظ به داخل سترتك و اخرج بسرعة ولا تغلق الباب.. اترك وراءك بعض الفوضى.. انزل على الدرج، ربما لا يزال الحارس يغط في النوم؛ و عندها سيظن أنه قد نسي فقط إحكام قفل الباب، أو ربما وجدته مترنحا يتفقد ممر العمارة؛ وعندها أخرج المسدس و صوب طلقة خرساء بين عينيه دون تردد.. غادر المكان.. ستبدو الحادثة كعملية سطو راح ضحيتها الحارس المسكين.. ابتعد.. لا تتلفت سر فقط بثقة و اعتدال حتى يبتلعك الظلام، اركب سيارتك واتصل بي حتى نتفق على اللقاء و لن انسى مكافأتك يا بطلي الصغير» ضحكت.. قهقهت.. قالت (أحب العمل النظيف) و أغلقت الخط.
لا أصدق أنني حتى تلك اللحظة كنت في حضرة عفريت، لا أصدق أنني قتلت الحارس! أؤكد لك بأنها بارعة.. حاذقة و… و شهية أيضا!
* * * * *
قد تتساءل لماذا أخبرك بهذا الآن و أنت على بعد خطوات من حبل المشنقة.. أهي صحوة ضمير متأخرة؟! لا أظن.. برغم أنني نادم على نحو ما على فعلتي بك.. نعم إنني حزين لأنني من قدم لرجال الأمن دليل إدانتك.. لكن و بعد أن وقعت في غرامها لم يعد لدي خيار، فحتى نستمر أنا و هي معا كان عليك أن تختفي.. لقد انتهى دورك يا صديقي!…
أنا أخبرك بهذا لأني خائف منها.. لقد فكرت كثيرا – برغم العشق الذي يجمعنا- ماذا لو فكرت في التخلص مني أنا أيضا؟! لا توجد أي ضمانات على أنها لن تفعل.. لابد أنها ستفعل أي شيء لتحمي نفسها و تحصل على ما تريد..
اسمعني! أعرف أن الدم يغلي في رأسك الآن.. اصبر قليلا.. ستزورك اليوم..
لقد أحضرت معها كعكة عيد ميلاد فاخرة؛ عيد ميلادك الأربعين والأخير.. جاءت لتحتفل معك بميلادك قبل ساعات من المشنقة.. ياله من مشهد عاطفي مؤثر يذيب أقسى القلوب على وجه الأرض! .. ها هي أمامك الآن تتأرجح على جبينها خصلة جميلة، أؤكد لك بأنني أزحتها لأطبع قبلة محمومة بين عينيها الساحرتين في نقطة التقاء جناحي العنقاء تلك.. هل ترى أثر قبلتي هناك؟ هل تراه؟!
في منتصف الكعكة التي بينكما يوجد مسدس -لا أحد سيشك بكعكة العيد الأخير يا رجل – أخرجه بسرعة و تذكردائما أن السرعة أهم من الذكاء.. صوب طلقة خرساء بين عينيها دون تردد؛خذ بثأرك واقتل القطة.
* * ** *
شكرا صديقي العزيز ما هي إلا لحظات و أقفل المكان. احتفظوا بالمسدس وكعكة الميلاد وأرسلت الجثة الباردة إلى المشرحة.. و أنت إلى المشنقة، اتصلت بالرئيس : تهانينا سعادتك لقد أنجزت المهمة.. اصطاد البوم الفأرين معا..
ضحك.. قهقه قال (أحب العمل النظيف) وأغلق الخط…
شارك المقال