قصة قصيرة جديدة: الجذور الدافئة

402
شامة

شامة ميرغني عبد الكريم

كاتبة روائية فازت بجائزة الطيب للإبداع الروائي - مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي

• استيقظت علي رنين  الهاتف قبيل الفجر   سبقتني  ابنتي هبة   برفع السماعة  وردت بصوت قدضمخه النوم:-

-آلو ….. ( ثم انتشى صوتها فجأة)

– خالو محمود ؟ ازيك يا خالو ! مالو صوتك كده؟ 

قفزت  من سريري وخطفت السماعة  من يدها  فجاءني صوته مشروخا مأزوما :-

– ازيك يا أمينة !

– كيفك يا أخوي  إن شاء الله مافي عوجة؟

– لا لا مافي عوجة  .(ثم بذات الصوت المشروخ والذي بات إلي الهمس أقرب)        قال لي:-

–  يا أمينة نحن جايين !أعملي معروف خلي حاج  سليمان  يطلع من الفيلا بأسرع يمكن… أدفعي له زى ما عاوز …. وبمجرد ما يلقى بيت ويرحل أديني خبر…. اوكى؟ مع السلامة

تطلعت الى سماعة الهاتف  وقد سقط قلبي !لماذا يعطني فرصة للاستفسار؟  يا الله ما هذه الرنة الغريبة في صوت أخي ؟ ماذا حدث ؟ لماذا قرر العودة فجأة هكذا ؟ وقد كان هنا قبل ثلاثة اشهر وتوسلت اليه أن يضع حدا للغربة  ويكتفي بما جمع من مال وما شيد من عقار( وهو غير قليل)لكنه تعلل بوظيفته المرموقة والتعليم الراقي الذي يتلقاه ابناؤه وليد وياسمين  حدثني عن ابنته التي نافست الخواجات في عقر دارهم وتفوقت عليهم.

– يا أمينة الوضع هناك مريح والحريات مكفولة  لأي زول .ثم يتعلل بفشل الدولة في توفير الخدمات الاساسية.

– شفتي  يا أمينة! شفتي التخلف ده كيف؟  الكهرباء  قطعت !هسع زي الحر  ده يعيشوا فيه كيف؟  

ودعني اخي وهو يمسح دموعي  ويعدني أن يرسل لنا زيارة   في نهاية  هذا العام  فماذا حدث ؟                                                                                 نهضت من جمر على فراشي وبخطى متثاقلة اتجهت لى الهاتف  وابلغت العم سليمان في حياء  واشركته في حيرتي ، تململ الرجل وابدى استغرابه.. خلال أيام قليلة  وجدنا له سكنا مناسبا ودفعنا له مقدما لعام كامل رغم تمنع الرجل الطيب واعتراضه 

أسرعت أتصل بشقيقي، ابكتني نبرة الحزن في صوته فتوسلت اليه:- 

– عليك الله يا محمود طمئني  مالكم ؟ الحاصل عليكم شنو؟

   مصيبة  يا أمينة مصيبة يا أختي ! تصوري لقيت ياسمين جايبة ليها خواجة مبيتاه  معاها في غرفتها ؟  وقالت ايه انه ده البوي فريند بتاعها !وانها خلاص قررت تتزوج !!شفتي يا أمينة المصيبة الانا فيها؟؟   (ولولت.) 

– ووب علي َ يامحمود وووب علي يا ود أمي ! يويو جنت ! يويو ما نصيحة!        كانت ياسمين قد  قطفت من  الربيع  تسعة عشر زهرة  متفتحة … وكنت اباهي بها  اهلي وأحتفظ بصحف العالم  التي تحدثت عن نبوغها ..لقد أكملت دراستها الجامعية في زمن قياسي لم يسبقها اليه أحد من اسرتنا  …استضافني الأرق على موائده عدة ليالي  ووضع بصماته على اجفاني  وعظامي ، كان الرعب يسحقني  بهاجس يطل في متاهة خوفي (ماذا لو كانت …..)  فأغلق باب غرفتي وأبتهل  الى الله أن الا يكون الأمر قد تجاوز حد المبيت ، واتوسل :- يا ربي اجعل العواقب سليمة، يا ربي  أنت أكرم من أن تجعلنا في وضع كهذا.. وأربط رأئسي  المتفجرة بعاصبة  .. فشلت  محاولات زوجي وابنتي  في معرفة سر اكتئابي وضغط دمي المرتفع …بعد اسبوع  من المعاناة وصل شقيقي وألقت ياسمين بنفسها في حضني   …عانيت كثيرا وانا اقبلها  لاحظت برودي  وأطلت عشرات الاسئلة من عينيها الذكيتين وانا اردد في نفسي ( معقول ده كلو يطلع منك يا بت محمود؟ )  

– تحينت الفرص للأنفراد بشقيقي ،فطمأنني بأن الأمر ابسط من تصوري، وقال :-

– لقد أقنعت يويو أن نحتفل بزواجها هنا في السودان أولا ، ثم نعود ونكمل مراسم الزواج  هناك …هكذا يا أمينة صار تفكير الشباب هذه الايام لا قداسة عندهم لدين او هوية ،  أصابني الوجوم  لمنطق الاستسلام الغريب عند أخي  كيف يترك البنت   لتنسلخ من دينها وهويتها ! ما عدت أفهم شيئا ويويو تتقافز كالفراشة وتناقش هبة في مبدأ وحدة الديانات ورجوعها لأصل واحد ،فيقهرني الغيظ  :-  ترى بأي دين وبأي مبدأ سمحت  لنفسها أن تختلي برجل غريب وتقضي معه الليل في غرفتها ؟ مراسبوع وانا في حيرة احدق في وجه شقيقي وزوجته كأني اراهم  لاول مرة.. و يقرأ شقيقي ما بداخلي  فيربت على كتفي كأنه يخفف من فجيعتي ..

ذات صباح ابلغني محمود أنه مسافربعد قليل  فأستنكرت ذلك ، قبلني  محمود على رأسي وضمني الى صدره، وطمأنني بأنه رتب المسائل بشكل جيد ،وانه سينهي .ارتباطه بالجامعة ويعود مع ابنه  بعد شهرين . كان  اخي  قد اكمل اجراءات سفره بسرية تامة،وقبيل توجهه الى المطار بدقائق  رأيت محمود يضرم النار في جوازات سفر يويو ونعمات واجهزة المحمول ،وكثير من الوثائق وشهادة ميلاد يويو وسط صراخ يويو   وذهول نعمات .. ودهشتنا جميعا ..ركب   اخي السيارة التي حملته الى المطار ,ملوحا لنا بيديه و على  وجهه ابتسامة  باهتة وحزينة . هاجت يويو وماجت    وهددت بابلاغ السفارة مرة وبالانتحار مرة وعشنا  واقعا دراميا  أغرب من الخيال لأكثر من شهر ثم استسلمت يويو واعادت ترتيب نفسها وأنطلقت من جديد يويو الآن  دكتورة في أصعب تخصص في جامعة مرموقة ولا تسع اكبر قاعة محاضرات في هذه الجامعة لطلاب دكتورة ياسمين الذين يلتفون حولها لينهلوا من علمها  وبعضهم يماثلونها عمرا وبعضهم اكبر منها  . يويو لا تخجل  من سرد تجربتها   وتضحك من قلبها وهي تقول:-

لقد دخلت العالم الغربي من اوسع أبوابه وأخذت منه كل شيء جميل   وأخرجني ابي منه  قسرا  بتزمت رجل تسكنه الهواجس  وتسيطر عليه افرازات جينه الوراثي ونمط تفكيره الشرقي !لكني اشهد أنه كان حكيما  فلولا حكمة أبي وتفكيره   المتزمت لكنت قطرة  ذائبة  في محيط بارد لا يعرف مثل هذا الدفء.

 

شارك القصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *