قصة قصيرة جداً: الخرقة التي قصمت ظهر الصبي

113
رقية طه

رقية طه المغربي - القاهرة

• يقف بشفاهه المتشققة من آثار العطش، وعلى جسده قميص مرقعٌ  وقذر، يواري -بالكاد- عظام قفصه الصدري البارزة،  يتراءى على سحنته هدوءٌ مصطنع، يخفي في دواخله أزيز نيران حقدٍ  وحنقٍ لا يضاهيه سوى لهب شمس يوليو الاستوائية الحارقة هذا، هيئته الرثَّة وسنه الصغير لا يتسق  وأحلامه الكبيرة.

يحمل في يده خرقة صفراء  بالية يمسح بها نقاط العرق المتصبِّب على أخاديدِ جبهته جرَّاء الوقوف تحت الشمس، ثم يطويها ويهوي بها على زجاج السيارات الفارهة ما أن تتوقف أمامه في إشارة المرور التي يتخذ منها مقراً لعمله، يحرِّك يديه بحركات دائرية فيشير له السائق بيده ليتوقف، يتجاهله ويواصل بإصرار مسح الزجاج، ثم يُتبع حركة يديه بدعواتٍ يستجدي بها جنيهات السائق، فيشير الأخير بيده بحزمٍ أكثر هذه المرة، ليبدأ الصبي بالاستجداء أكثر، ولا بأس من ذرف بعض الدموع ليكتمل المشهد، ثم لا يلبث أن يتحول الدعاء إلى لعناتٍ يقذف بها في ظهر السائق، حين لا تنطلي الدموع عليه، ويمضي دون أن يدفع ثمن التمثيلية الرديئة هذه، يعلم الصبي أن اللعنات ستصيبه، وربما تبعتها بضعة سياط، حين يعودُ لأبيه حاملاً في يده جنيهات قليلة، لم يعد يفلح في الاختباء خلفَ والدته التي تهبُّ للدفاع عنه أمام زوجها لتلقي السياط اللاهبة بدلاً عنه، فقد كبُرت على الأذى والضرب، وكبُر هو على الاختباء خلفها، وأباه لم يزل على حاله بعد أن فقد ساقه منذ سنوات، يجلس في فراشه طوال النهار محتضناً (المذياع) القديم، يسبُّ ويلعن كل من يمر من أمامه، ثم  يتجرع من قارورة الخمر البلدي النتن الرائحة، الذي يأتي له به ابن بائعة (العرق) كل يوم،  ويدفع ثمنه من عرَق أبنائه وزوجته التي تنكفئ -رغم مرضها – على موقد الحطب لعمل (الكسرة)، ثم تذهب لبيعها في الشارع العام، وإن لم يفلح في أخذ الأموال منها عنوةً، يبيع كل ما تقع عينه عليه من أثاث البيت، وحتى المذياع الذي لا يفارقه لم ينجُ من يدِ البائع حتى أعادت زوجته المال واستعادته منه، فهو على قدمه ورداءة صوتِه، يُفلح في أن يَشغله عنهم لبضع ساعاتٍ قبل أن تدور الخمر برأسه.

 الصغير لا يزال يذرفُ دموعه وعرَقه تحت الشمس الحارقة، التي  لاتزال تتسلط بحرارتها اللاهبة علي جبين الصبي، حتى إذا انتصف النهار آوى وزميله  في المهنة إلى ظل شجرة هزيل لا يكاد يغطي أجسادهم المتفحِّمة قرب إشارة المرور، يفترش وصديقه بقايا وجبة الطعام التي قذف بها في وجوههم أحد السائقين، فأسرَّ  للصديق أنه قد عزم على الهروب من قسوة الظروف إلى(أوربا)، سيبدأ رحلته بالذهاب إلى خاله في مدينة (الجنينة) ومنها إلى (تشاد)، ومن هناك عبر عصابات التهريب إلى أوربا، فهكذا فعل ابن خاله الذي سبقه بذاتِ الطريق إلى هناك، مع  نفر من أبناء قريتهم، مات بعضهم في الطريق غرقًا وجوعًا، وحالف الحظ والحياة البعض الآخر فنجوا، ووصلوا إلى تركيا ثم تسلَّلوا عبرها إلى اليونان حتى استقرَّ بهم المقام في فرنسا، وابن خاله هذا يعمل الآن طباخًا في مطعم فرنسي كبير، و يجني أموالًا طائلة كما أخبرَ خاله.

مالت الشمس للمغيب والصغير لايزال يحكي عن أوربا والطريق إلى الجنة التي تنتظره، ما  أن يجمع ثمن تذكرة الحافلة إلى (الجنينة) والمال لبقية الرحلة.

– سأكمل تعليمي وأجني مالاً كثيراً أخلص به أمي وأخوتي من سياط والدي.

-ربما تموت في الطريق .

قذَف صديقه في وجهه ممتعضاً بهذه العبارة وهو يهم بالوقوف لمواصلة العمل في مسح زجاج السيارات واستجداء سائقيها، مسح الصغير العرق عن جبينه وأجاب في هدوءٍ :

– هل تسمي هذه التي نعيشها حياة؟ لقد لفظتنا الحياة يا صديقي منذ زمن، وتخلت عنا مع سبق الإصرار والتعنت، نحن أمواتٌ دون شهادة وفاة، وأحياء دون شهادة ميلاد، ربما لو نجحتُ في الوصول، أستطيع إكمال تعليمي إلى الجامعة ودراسة الهندسة، تعلم أنني كنتُ أجيد الرياضيات قبل أن أترك المدرسة، سأعود و أشيِّد مدرسة في الحي لأبناء الفقراء مثلنا مجاناً دون أن تسحق كرامتهم حال عجزهم عن سداد الرسوم مثل ما حدث معي،لا أستطع نسيان اليوم الذي منعني فيه مدير المدرسة من الدخول لأن أبي لا يملك المال لتعليمي، خرجتُ يومها قبل الأمتحان بأيام ولم أستطع العودة إلا بعد أن باعت أمي جزءاً من أثاث منزلنا لسداد مستحقات المدرسة، قال لي المدير يومها :

ما حاجتك للتعليم ؟ اذهب للعمل حتى تعين والدتك، ثم أشاح بوجهه عني ضاحكاً حين أخبرته أني أريد دراسة الهندسة، لا يزال دويَّ  ضحكته المجلجة تلك يخترق أذنايَ حتى الآن، ولا أستطيع نسيان كلماته التي قذف بها في وجهي أمام الطلاب وهو يهز رأسه يمنة ويسرة متعجباً يقول:

– قال هندسة قال!

لم أخطُ بعدها أمام المدرسة، أنا ميتٌ منذ ذاك الصباح ، قتلتني كلماته تلك التي تفوه بها دون اكتراث،

ما الفائدة يا صديقي من أن تتشبث بحياة لا تريدك ؟ ووطن لا يعلم عن وجودك ؟ سيكون لي هناك سكني الخاص، ألقي بنفسي على فراشٍ وثير ٍلا يشاركني فيه أحدٌ من أخوتي، وحمَّام لا تنقطع عنه المياه.

بعد أشهرٍ تلت هذا الحديث الحالم كان الصبي يختبئ داخل شاحنة بضائع متوجهة إلى (تشاد)، و السيارة تمضي مثيرة حولها الغبار في طريقها إلى الحدود بين الدولتين، كانوا ثلاثة صبية لهم نفس السحنة ويحملون ذات الحلم، دفعوا في سبيل امتطاء هذه الشاحنة حصاد عملهم لأشهر وبعض مدخرات ذويهم، أما صاحب السيارة الذي تقاضي مبلغاً سخياً مقابل أن يعبرَ بهم الحدود يعلم أن ما من أحد سيعترض طريقه، فهو معروفٌ لديهم ويمر من هذا الطريق كل أسبوعين، أخبرهم أنَّ مهمته  تقتضي بأن يعبر بهم الحدود فقط، وهو غير مسؤول  عنهم في حال ألقي القبض عليهم بعد ذلك، منه وسيلتقطهم من الحدود سائق شاحنة آخر، يعبر بهم إلى الميناء حيث يَزج بهم آخر في ظلمات البحر.

أعدت أمه الشاي ووضعته على الطاولة أمام جارتِها ثم رمت بجسدها المنهك على الكرسي قبالها، فبادرتها الجارة بالسؤال:-مافي أخبار من الولد؟

ابتلعت الأم غصة حلقها قائلة إن أخباره قد انقطعت منذ دخوله الأراضي التشادية، وأن الرجل الذي أوصلهم إلى هناك أخبرهم عن وصولهم بسلام ولا يعلم أين ذهبوا بعد ذلك، حاولت الجارة مواساتها وهي تقول :-كثيرون اختفوا ثم عاودوا للظهور بعد سنوات.  

أمه تمسي وتصبح ملتصقة بهاتفها النقال في انتظار مكالمة منه ، امتنعت عن الخروج من المنزل خشية أن يعود في غيابها، يخيلُ إليها أحياناً أنها تراه عائداً محملاً بالنقود والهدايا  فتحتضنه وتسجد لله شكراً على عودته.

 لكنها لا تعلم أنه يرقد الآن جثة هامدة داخل مشرحة باردة، بمستشفىً حكومي في العاصمة الليبية (طرابلس)، يحمل بطاقة (مجهول) ورقماً دون هوية، في انتظار من يتعرف عليه.

 

شارك القصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *