منى محمد صالح

منى محمد صالح

• تدخلين غرفتكِ في المساءِ العاري، تنفضين عنها تراكم العتمة، وبداخلكِ خرابٌ يلامس القلب، يتأطره وسط ظلمة حالكة، لا يُسمع فيها سوى مطرٍ يتساقط على خشب النافذة الوحيدة في الغرفة؛ وضلفتا النافذة المفتوحة على مصراعيها تتأرجحان مع الهواء البارد، تصدران صوتاً بائساً يتساقط بصرير مكتوم.

ينحدر الوقت معكِ إلى متاهتكِ البعيدة، فيشعركِ بوحدتكِ الباردة؛ لا تعرفين كم يبدو كل شيء منهكاً إلى هذا الحد وأنتِ تدورين حول نفسكِ بعينين متعبتين. في وسط الغرفة، تتراءى لكِ مدنٌ تشبه حقول الريحان، نداءٌ يحتويه محض الخاطر، من ابتداء الرمق إلى سفورٍ يأخذ النصف الآخر منه، صوتٌ خفيض ينسحب بتلذذٍ حارق، يتصاعد شواهقاً من التعب، ذاكرةٌ تنزّ بتؤدة؛ فتتضح المفردات بدلالتها، وكل الأشياء أمامكِ لم تعد مهمة.

كنتُ أعرف بالغ التعب وأنتِ تقولين لنفسكِ:

إن هذا الألم الذي أحمله لن يُغادر أبداً.

وكل شيء من حولي يستعذب تداعي اللحظات الموجعة؛ تلتحفكِ لعنة الوقت ببطء، تسوقكِ نحو فراغٍ سحيق. لا يهم كثيراً إلى أين يجرّكِ، فقط تقفين عارية هنا، تتأملين متاهتكِ تتسع أمامكِ في دوران رمادي يتشرنق بحباله الكثيفة، تتشظى فيكِ تعاريج القلب المنهك، وفي لحظة كأنها برق، يتهاوى معها كل شيء.. كل شيء، وأنتِ وحدكِ هناك، حيث لا رفقة سواكِ في تلك العشية البائسة، كأنكِ كنت تلهثين منذ أن وُلدتِ، يجتاحكِ ثقل الوقت كثيفاً وقد دلف معكِ وركن في زاوية الغرفة الخالية من كل شيء.

كان الوقت مثلي، كائناً يجرجر ظلال خيباته بتثاقل بطيء، وقرص الشمس الآيل للانحدار يوحي بالاختفاء دون أن يتبقى من بقاياه ما يُذكر، والساعة تتجاوز السادسة والربع بقليل. حرارة الجو الخانق تتكاثف برائحة ثقيلة تنبعث من فراغ الغرفة العائم في ضوء شحيح، وأنا المارقة من تحت جلدي متكومة في مكاني، يتمدد الجسد المعطون بالتعب، أُحدق في وجوم من حولي وكأن كل ما مضى بقي هناك في مكانه ولم يعد كما كان من قبل.

هاجسٌ لعين يطاردني وأنا أخبو قليلاً.. قليلاً، أحملُ قلبي معي، حيث أجدني هناك، بقربك، تسكن حناياي منذ تلك الولادة:

أيها التعس، كم أحبك. ما زلتُ أحمل معي أحاديثنا، دفء الحكايات الصغيرة، التي تجعلني أُحبس دمع دهشتي وأنا أراك بقلبي كما أفعلُ الآن.

من يعبأ بثقل هذا القلب، وقد اتسع ثقبه الراعف في مكانٍ ما، وبلغ أوج ذعره، فاغر الجرح ومنسياً، يُبحلق من خلال تشقّقاته نحو روح أراقبها تنسلخ بعيداً عني، تتوارى، تعلن عن تصدّعها بدنو اللحظة، ويفر السؤال من السؤال، يلمّ ركامه مترنحاً في محاولةٍ أخيرة للحاق بسرب العصافير العابر دونما جدوى:

ماذا لو…؟!!

كأنه صوتي ينسرب حنوناً، وكلما لامستُ روحك يتنهد الصعداء قلبي، مثل انبثاق السنبلة، غيم لطيف يهمي مرتعشاً، وقد أومأتُ لك في واحدةٍ من زوايا الحنين، هناك حيث ارتخاء الجسد المنهك يتمادى معي. أُناديه، يوغل في دفئه، تتجاسر عبثاً تلك الروح، بعينيها الممتلئتين بحبات الدمع بعيداً عني، خشية أن تنفرط في البكاء:

إنني أبلغ من العمر حبك. كعهدي بي/بك.. بروحينا. ما زلتُ أناديك طفل قلبي، وأُخبئ سراً، قمر الحكايات؛ كيف لي أن أعانق دفئك وأنت الآن هنا، ملء الروح تسكنني. لا شيء… لا شيء هنا تماماً غير هذا القلب الذي يحتويك منذ ولادتي وللأبد.. آه.. وحين تناديني (….).

وسكتت، والقلب يركض نحوها، وكل منهما ينبت في الآخر، ينقصف الداخل المهدود بيننا رأساً على عقب، وأنا أبحث عنها لأجدني، أُنادي اسمها (…..)، ناصية الخطو المثقلة بالوخز تتقارب أكثر وأكثر…

صرختُ وحدي:

آه… ليتها لم تسكتْ.

التصاقٌ حميم بالتعبِ يحملني إليها منذ أن بعثرني غيابها الحزين، وذاك السؤال المضنى الذي لبث هناك، لم يُبارح مكانه أبداً، مثل جراحٍ فاغرة لا برء منها!

وقبل أن تمضي، أدارتْ رأسها نحوي بانكفاءٍ أخير، وقالت لي بصوتٍ يغلب عليه الشرود، ويشوبه الكثير من الأسى. كان بوحها شجياً:

كيف يمكن أن تعبث الأقدار بنا، بروحينا، أن تمضي ولا تعود، أن يتناثر أحدنا بالآخر دون لقاء، أو عناقٍ يلمّ شعث الروح وأوجاعها المثقوبة؟!

ويلثم الليل قلبي إذ يتمادى نصل السؤال من جديد، حارقاً:

ماذا لو…؟!

تبّاً له من عرى سافر، وهذا التداعي الذي يتناسل موجعاً، بالكاد يحملني، حيث كنت أنت هناك وحدك تطوف، حول قلبي، منذ زمن بعيد… بعيد، تندسّ تحت نبضه، تحتويه، تحرسه من العطب، وكل الطرق تؤدي إليك، تستنطق ما بالروح من تعب، ولا تصل.

لا أدري كيف تكوّمتُ على بعضي المنهك في حنوٍّ غامر، أنظر من بعيد. حالة خاصة من التمادي المريح، وقد سيطر عليّ هذا الشعور الكثيف المُر. نداءٌ يتكالب من فجّة واحدة، يلتقط بعضه البعض، يتهاوى من علوّه الشاهق مثل قطع زجاج، يتشظى إلى قطع صغيرة.

يتوزع نصل الجحيم للمرة الأخيرة، يرتفع بعبثتيه السافرة حيث لا نديم آخر سواه في تلك الغرفة المعتمة:

ماذا لو…!

يتمدد الشرخ طازجاً من جديد في مسامات الجسد، يقاسمه تلاحق الأنفاس الوجلة، احتواء طعم الملح الحارق المندلق في الروح، ومنذ ذلك الارتطام، لم ينجُ أحدٌ منا، سوى ذاكرة ما زالت ممدودة بحبل من الأغنيات.

برمنغهام 29 يناير 2018م

 

شارك القصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *