قراءة  في ديوان الشاعر محمد نجيب محمد علي (دم العاصفة).. القصيدة وطلب اللجوء العاطفي 

188
غلاف دم العاصفة
Picture of صلاح الدين سرالختم علي

صلاح الدين سرالختم علي

• (محمد نجيب محمد علي) صوت شعري متميز في خارطة الشعر السوداني ، صوت لم يجد حظه من اهتمام النقاد ولم يجد شعره حظه من الذيوع والانتشار ولا ينقص ذلك من موهبته وتفرده شيئاً ـ فكم في التراب من تبر مطمور يتوهج برغم كونه في باطن الأرض مدفون . أصدر محمد نجيب مجموعة (تعاويذ على شرفات الليل) عام 1971 ثم مجموعة (ضد الإحباط) في عام 1974 ثم ( صمتت عنه   المطابع ) كما قال الناقد (عبد القدوس الخاتم) في تقديمه لديوان الشاعر الأخير (دم العاصفة) الذي أصدرته (هيئة الخرطوم للصحافة والنشر) العام 2014 ضمن مشروع نشر الكتاب السوداني .

مدخل مميز:- يستهل الشاعر الديوان بمدخل مميز يلخص فيه معالم تجربته الإبداعية شعراً فيقول :- 

جُنِنت في شوارع المدينة

فمن يعيدني للبيت يا حبيبتي ؟ 

ومن سيكمل الحروف في قصيدتي

 والغول والعفريت 

واقفان تحت شجرة الكلام

 يخطفان كل نجمة تضئُ في مسارب الظلام 

 ويشعلان النار في أصابع السكينة . 

فالشاعر يجوب المدينة الوطن كجواد أصيل نافر من القيود لا يكف عن الركض والصهيل في شوارعها، فلا يرى الناس فيه سوى متشرداً صعلوكاً فقد عقله، ولكنه لا يكف عن التجول والصهيل ويستجدي الحبيبة وطناً بيتاً خطفته منه طيور الظلام والغيلان والعفاريت ، فظلت قصيدته عصية على الكمال والاكتمال ،ظل الشاعر يصهل بلا توقف باحثاً عن حروف مسروقة وأحلام ضائعة وسكينة مسلوبة  (الغول والعفريت

واقفان تحت شجرة الكلام

يخطفان كل نجمة تضئ في مسارب الظلام

ويشعلان النار في أصابع السكينة)

 نرى في هذه الكلمات القليلة الغنية وطناً يتصدع تحت وطأة الفؤوس ونيراناً تشتعل فتمنعه السكينة وتمنع عصافير الكلام ويأخذنا الشاعر من هذا المدخل المعطون في الشجن والفجيعة إلى عالم أكثر حزناً في قصيدته (البكاء في هامش القصيدة) التي زينت (دم عاصفته) فيقول :-

( كل يوم في الصباح 

إرتدي حزني قميصاً 

وحذائي شارعاً لا ينتظر 

ومجاعاتي التي تسرق من عطر المطاعم ) 

ثم يقودنا إلى كهوف الماضي :- 

(كان لي بيتُ وامرأة وعصفور جريح 

كان لي يوماً وظيفة اشتري منها وطناً 

غير أني لم أجدها لم أجدها … لم تجدني) 

(كان) تؤسس هنا للقصيدة ، لافتراق عالمين ، لكيمياء التشرد والتشظي ، ولحالة اللجوء العاطفي التي تفتك بالشاعر في غربة روحية حكمت عليه الظروف بأن يعيش فيها (وحيداً) (غريبا) (كان) تؤسس للنقيض هنا :

 كان لي بيت : فـ(لم يعدَ لي بيت) كان لي (امرأة) :و (عصفور جريح)    و (لم يعد لي شيء من ذلك)  ، ثم بات عاطلاً عن العمل (كان لي يوماً وظيفة) ، هي العاصفة قد أخذت معها كل أمان إنساني ومادي إذاً ، هي العاصفة اقتلعت (البيت الوطن) من جذوره وتركت صاحبه في العراء يتسول خيمة من خيام اللاجئين التي تؤوي في كل ضياح شعباً عربياً جديداً عوضاً عما كان لديه !! هي العاصفة أخذت (المرأة) (السكن) (الوطن) لتكتمل حالة التشرد بفقدان الوطن  الجغرافيا والتاريخ ثم الوطن الإنساني الأسرة والدفء والحنان ، ثم تأخذ العاصفة معها (العصافير) وكل ما يزين الوطن وتنقض على (الوظيفة) مورد الرزق ليكتمل التشرد والضياع، هكذا يمزق الشاعر الأقنعة عن وجه زمانه ويسمي الأشياء بأسمائها ويواصل الصهيل، يتذكر الشاعر أمه في قمة حزنه فيرثيها داخل القصيدة : 

(غادرت أُمي جحيم الأرض حتى لا تراني أحترق

 غادرت صوتي لتتركني أُغني للبكاء ..

 وأنادي لعيال الصمت حتى لا يناموا

 فأنا أعرف أن الصمت يمتلك الحقيقة

 وأنا أعرف أن الصمت لغة المتعبين)

ثم يستنجد الشاعر بربه (يا إلهي دثر الوطن من الحمى

وزملني وامنحني يدي

كي لا تطاردني خُطاي)

 ثم يتدفق ينبوع نجيب شعراً في صور سريعة متلاحقة على طريقة السينما في التدفق ، يقودنا ببراعة ورفق إلى عالمه الداخلي الثري فنحلم معه ، في هذه المقطوعة الشعرية الصغيرة (إنني أبحث عن صوت هناك 

عن يد أخرى تبادلني العراك 

عن مساء لا ينام 

إنني أبحث عن شيء يفجرُ داخلي قسراً 

ويمنحني السلام)

  هذا التوق الإنساني النبيل إلى التواصل الحميم مع الآخر ، وهذا الجوع إلى الحنان  هو ما يدفع الشاعر إلى ارتياد ضفة الأحلام والهروب من قسوة الواقع وسكونه إلى عوالم مترعة بالمشاعر وبالدفء وبالتواصل . 

  ثم تستيقظ المخاوف عند ضفة الأحلام فيهمس شاعرنا بصوت خفيض حزين مصرحاً بمخاوفه : (أخبئ عن فمي صوتي

 وعن صوتي لساني

 ثم أخرج عن زماني 

فأرى جثة النهر التي تطفو على صدر الثري) 

 وهل يموت النهر ؟! وهل تمدد النهر على صدر الثري إلا ولادة ؟! هكذا يتغلب الرجاء على الخوف والأمل على الإحباط في القصيدة في أحلك لحظات ولادتها . 

  ثم يعود شاعرنا إلى مغازلة الأمل والقصيدة التي تساوي الحرية عنده فيرسم لوحة مبهرة : (وأدخل في جيوب السر جهراً

 أفتش عن دم يصبح حبراً

 وعن لغةٍ تزلزلني وتكسو قلبي العريان شعراً) 

  – فهو يصور هنا صراعه مع ماردالشعر المهووس بالصدام فهو حين يروم الهمس سراً يخرج صوته جهيراً فيزلزل السكينة (وأدخل في جيوب السر جهراً) وهو يجعل من دمه حبراً  يكتب به كلمات قصيدته تماماً كالشهداء حين يسطرون شهادتهم بدمائهم  (أفتش عن دم يصبح حبراً) ثم يجعل من اللغة زلزالاً يبني ولا يهدم (وعن لغة تزلزلني وتكسو قلبي العريان شعرا) 

ثم يختتم لوحاته بصرخة تزلزل السكينة : 

(عصبوا عينيّ في وضح النهار 

غير أني 

كنتُ ، يا أنت ، أرى خلف الستار) 

فلا شيء بقادِر على إسكات صوت الشاعر ، ولا شيء بقادِر على منع الضوء فضح الظلام . هكذا يصرخ شاعرنا في وجه القُبح بلا وجل ولا تردد . 

  ثم يعود بنشِيد من أناشيد العاصفة صارخاً (البلاد التي مسها الضر دهراً تطاير منها الشرر). يبدو المشهد هنا عاماً يتسع  لكل المدن العربية  المتأهبة للثورة والتي قال عنها الشاعر مُريد البرغوثي في تناص مع هذا النص:

 (مدن بلادي تتشابه مهما اختلفت

 فالشرطة في صف وأهاليها في صف 

، مدن في أوج سكينتها مضطربة تكبر في مدرسة العنف

عربات الجيش تواجه كتب الطلبة) لكن الشاعر يدلف مباشرةً إلى أرض فلسطين مسمياً الأشياء بمسمياتها :

 (كل حَجَرٍ حِجِر

 إلا الحجارة في أرض يافا

 لها مثل كل الشجر ثمر) 

ويمضي قائلاً : (كل حَجَرَ حَجَر إلا الحجارة في القُدس

 في دبكة العُرس بين بيوت الجليل وعزة 

 والخيل مندفع بالصهيل

 وأطفالنا خرجوا من دم العاصفة

 غيروا كل تاريخ أيامنا الزائفة 

 تحت كل حجر ، نجمة وقمر)

ومن القصائد الرائعة (تداعيات في غرفة الإنعاش) التي يسجل فيها الشاعر تجربة وجدانية مفعمة بالصدق حين كان تحت العلاج بمستشفى النيل الأزرق بالعاصمة الخرطوم في العام 2003 وحين كان الجسد عليلاً كان القلب فتياً يضطرب بالمشاعر فكتب الشاعر:

(غُرفتي كانت مليحة

 ويد البنت الفِرِس جست النبض

 ولاصت كفها في بطن كفي ثم قالت : خذ نفس 

كان نبض القلب يعلو

 كانت الشمس تناديني 

وكان الأصدقاء يوصدون الحزن عني 

يغرقون الجرح في ثلج التمني

 ويمدون إلى القلب أباريق الدعاء)

 يصور الشاعر المشهد بدقة كاميرا في يد خبيرة ، بصور غرفة صغيرة أنيقة وحسناء في ثياب بيضاء تقف عند رأسه تمد يدها ، تجس نبضه ، يخفق قلبه المتيقظ ، تعلو نبضاته يغيب الألم وينفتح باب الأمل ، يخفق القلب العليل بقوة  يستيقظ الشاعر فيه (كنت باليقظة أغفو كان ضوء الشعر يسري في شرايين  الإبر) 

  ثم يعود الشاعر إلى واقعه :

 (كلما يدخل زائر أقرأ الحزن بعينيه يبوح

 وأرى الآهة في الصوت تلوح

 وأرى دفق المشاعر

 وكأني بالمعزين أتوا قبل الرحيل

 وكأني أسمع الآن العويل) 

هكذا يصور الشاعر بدقة متناهية كل ثانية ولحظة وأثر كل تقطيبة على وجوه الزائرين أو مشاعر حزن أو أسف على (المريض) كأنه يقول أن وقع الزيارة على نفسه أشد من الداء نفسه !! 

(وأرى تسبيحة الموت

 وكلماتي الأخيرة حينما أنظر أرتاب

 وتأخذني النداءات المثيرة) 

ثم يصور مشاعر مختلفة لصديق

 (قال عبد القادر الناظر لي :

 قد سهرنا للصباح

 وقرأنا في صلاة الفجر دعوات القنوت

 وسألنا الله كي تحيا طويلاً بيننا كي لا تموت !)

  ثم يصور أثر ظهور ملاك الرحمة من جديد عليه وعلى مشاعره  (قبل أن أهتف للناس : وداعاً يا أحبابي وداعاً

 أيقظني كف تلك البنت من آخر عمري

 أشعلتني مرة أخرى 

فأيقنت بأني لست أدري

 أأنا الآن بشط العالم الآخر أحيا

 أم تراني هارباً من بطن قبري ؟!) 

هكذا يكتب الشاعر القصيدة قصة تموج بالتفاصيل الإنسانية المتوهجة فتحيلنا على عالم  (أمل ونقل) في أوراق الغرفة رقم (8) التي سجل فيها الشاعر الكبير تجربة إنسانية مشابهة . فيتجلى التناص بين النصين الشاهقين في أبدع صورة ونسمع صوت أمل دنقل : 

(في غرف العمليات كان نقاب الأطباء أبيض 

 لون المعاطف أبيض

 تاج الحكيمات أبيض 

أردية الراهبات ، الملاءات لون الأسرة

 ، أربطة الشاش ، القطن قرص المنوم ،

 أنبوبة المصل ، كوب اللبن 

 كل هذا يشيع بقلبي الوهن 

كل هذا البياض يذكرني بالكفن !!)

 لكن شاعرنا (محمد نجيب) يذكر الحياة في محنته أكثر مما يذكر الموت فيقول:

 (يا طبيبي ما الذي يشعل في القلب الحرائق ؟! 

ما الذي يجعلني في غرفة الإنعاش عاشق ؟!

 إنها البنت الفرس جست النبض

 ولاصت كفها في بطن كفي

 ثم قالت : خذ نفس . يا صحابي

  يا عصام .. طاب لي في غرفة الإنعاش 

، يا صحبي ، المقام

 فاتركوني كي أنام) 

الشعراء وحدهم هم يستطيعون اعتقال اللحظة الهاربة وتخليدها ، وتظل هذه القصيدة الصافية الهامسة الراعدة من أجمل قصائد المواقف الوجدانية ، فقد وثق الشاعر تجربته أيام الاستشفاء توثيقاً دقيقاً لم يغفل فيه شاردة ولا واردة وأدخلنا بدواخله من خلال الكلمات وتركنا نجول في حدائقه الرائعة فنرى صراعه مع المرض والهواجس التي تنتابه ونسمع دعوات الأصدقاء الزائرين له بطول العمر ونرى قلبه يخفق لملاك الرحمة الذي وقف يجس نبضه فجعلت لمسته السحرية العافية تدب في القلب العليل وجعلت المقام يطيب لشاعرنا . إنها قصيدة مهرجان في الحقيقة . 

  ثم ننتقل إلى نشيد آخر من أناشيد العاصفة ونسمع شاعرنا يصرخ (ونُكمل دورتنا ثم نكتب قبلتنا فوق رمل السماء ونرسم وردتنا ثم نمضي إلى جبل غير ذلك الجبل إلى جبل لا تحاصر فيه القصيدة أو يدعي الحاكمون بأمن العواطف أنّ الذي طارد العشق بين الشوارع بطل وأن المغنى إذا فاض فيه الغزل يُعتقل). هكذا يواصل (نجيب) تمرده وعاصفته في وجه من يطاردون العشق في الشوارع ويصرخ في وجوههم غير مبال ، ونسمع صوته وهو يجول في شوارع الخرطوم الخالية من الورود ومن الضفائر:

 (الشوارع أضيق مما أريد وأقصر مما أرى

 كلما سارت الأرض خطوة 

عادت القهقرى

 فأنا أخسر 

حينما أنظر دمعة في يدي 

ويدي تكبرُ)

ثم يصرخ في وجه الشعر متمرداً على جنونه (وماذا ورثنا من الشعر غير الشجن ؟!  وغير البكاء على عاديات الزمن ؟!) ثم يصور الشاعر صراعه مع ما رد الشعر حين يجئ ويسيطر عليه ويسد عليه الأفق في كلمات رائعة في قصيدته (تفاصيل حالة جنون عاقلة)  فيقول : 

(أيها الناس : أسمعوني

إنني نبتُ غريبُ اللحن في عصر غريب 

 يخنق الشعر ويغتال يقيني 

هاهي الأشباح 

كم شبح يحط اليوم في بيتي

وكم شبح يحاصرني 

ويفيض بالدم صوتي 

وكم شبح يساومني على موتي ! 

فأصرخ : 

أيها الناسُ : 

أسمعوني 

لم أعُد أعرف عقلي من جنوني) 

قصيدته (الأسئلة) المكتوبة في العام 2005 مرثية عميقة للسلام والحب المفقودين في الأرض فيقول :- 

(هل لدم الأرض من خلف المرايا  مصبّ ؟! 

هل سوف ينكسر الليل 

أم سوف تبقى يد الليل 

ممدودة كالشراع ؟! 

الحدائق تأكل أشجارها 

والحرائق تفضح أسرارها 

والمدائن تركض مذعورة من جحيم الصراع 

والشواهد تنطق أسماء 

من يسكنون القبور 

فكيف سيولد طير الهوى في زمان النسور ؟!)

 نسمع صوت الشاعر (أمل دنقل) من الضفة الأخرى يصرخ في تناص بديع مع قصيدة (محمد نجيب): 

أيها الواقفون على حافة المذبحة أشهروا الأسلحة! 

سقط الموت وانفرط القلب كالمسبحة

والدم انساب فوق الوشاح ! 

المنازل أضرحة 

والزنازن أضرحة 

فارفعوا الأسلحة 

واتبعوني !! 

أنا ندم الغد والبارحة 

رايتي : عظمتان  وجمجمة 

(وشعارى: الصباح)

وهي قصيدة أمل المعروفة بـ (الكعكة الحجرية) التي نشرت للمرة الأولى في مجلة  (سنابل) التي كان يصدرها الشاعر محمد عفيفي مطر في محافظة كفر الشيخ وطلب منه إغلاق المجلة بسببها ولكن القصيدة ظلت تقرأ وتنتشر كالنار في الهشيم ولم يوقف انتشارها حتى حدث كحرب أكتوبر 1973 و كانت القصيدة كتبت تفاعلا  من الشاعر مع الحركة الطلابية في اعتصامها أيام السادات بميدان التحرير في ذلك العام الذي سمى عام الضباب – 

  يبقى ديوان (دم العاصفة) حدثاً أدبياً مهما ومحطة مهمة في مسيرة الشاعر الكبير محمد نجيب محمد علي ونتمنى ألا تصمت عنه المطابع ثانية ولايصمت عنه النقاد. 

المراجع 

(1) دم العاصفة / محمد نجيب محمد علي / هيئة الخرطوم للصحافة والنشر / الخرطوم 2014م. 

(2) مريد البرغوثي / الأعمال الكاملة / مكتبة مدبولي القاهرة. 

(3) أمل دنقل – الأعمال الكاملة / مكتبة مدبولي القاهرة. 

(4) الدكتور / جابر عصفور / جريدة الحياة اللندنية / 15/5/2002 مقال بعنوان / ذكريات أمل دنقل.

 

شارك القراءة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *