قراءة انطباعية لقصيدة محمد نجيب «حلم الصبا»

54
محمد نجيب
Picture of إحسان الله عثمان علي - السعودية

إحسان الله عثمان علي - السعودية

• تتميز القصيدة بتوظيف عناصر العمق والانسيابية والتداعي والملاينة والترجيع وتجسد معاني الحزن الغائر والأسى السحيق والحلم ولوعة تواقة دوماً جهة الضفاف الأخرى. ثمة نبرات محددة نائية منثورة في أزمنة التيه والضياع وطبقات من المعاني والأحاسيس المرهفة التي تستحق الوقوف عندها وسنسلط الضوء على بعض الجوانب الجمالية..

يحمل العنوان “استني يا حلم الصبا” طابع النداء والإيحاء والانتظار  ويُلمح إلى حالة شوق وحنين لماضٍ أو لحلم قديم مرتبط بفترة الصبا. يستخدم الشاعر أسلوب المخاطبة المباشر ويخلق رابطًا عاطفيا بين القارئ والموضوع المطروح إذ يصبح الحلم كيانا حيا يستحق الانتظار والاعتزاز…

استني يا حلم الصبا انا جايي ليكي

من زحمة الدنيا ودروبها المتعبة

تُعد عبارة “استني يا حلم الصبا” الركيزة الثابتة في القصيدة وتتكرر في بدايات المقاطع وتعمل كنداء حميم مشحون بالأمل والانتظار ويخلق إيقاعًا موسيقيًا يُرسّخ فكرة أن الحلم ليس مجرد ذكرى بل كيان حيّ يحتاج إلى الصبر والعودة.

تنتقل القصيدة بين عدة طبقات ومشاهد عاطفية..لحظات تتحدث عن معاناة الحياة اليومية وزحامها وأخرى تعبر عن الأمل والحلم المتجدد. يتناغم ذلك مع تقلبات الزمن الذي يمزج بين الألم والجمال.

يعتمد الشاعر في هذه القصيدة على لغة شعرية سهلة راقية تمتاز بالبلاغة والرمزية؛ تنتقل الصورة الشعرية بسلاسة بين وصف الأحاسيس واللحظات الزمنية. تظهر الصور البلاغية في استخدام الاستعارات التي تربط بين مفاهيم الزمن والحنين والأمل ومفهوم “الصبا” كرمز محفور في الذاكرة والوجدان.

انا عندي ليكي دروب جديدة

عندي ليكي اشواق جديدة

شوق بيتحدى الليالي بيهزم المدن العنيدة

يستخدم الشاعر صورًا حسية قوية؛ فعبارات مثل “شوق بيصحي النجمة من تحت السحابة” و”يملا دنياك بالصبابة” تمنح القارئ تصورا حيا لتحول الليل إلى صباح مشرق حيث يتجسد الحلم في بزوغ النور وسط عتمة الظروف.

الصور اللفظية تحمل تلميحات للأمل  والغد المشرق الجميل حيث يُشبه الشاعر الحلم بالمصدر الذي يُضيء الحياة في أوقات الظلام.

يُوظّف الشاعر الاستعارة والتشبيهات بشكل مكثف يحول الحلم إلى كيان حيّ متحرّك “انا جايي ليكي” يعبر عن تحدي الحياة وتعويض معاناته بما هو جديد؛التشبيهات بين الأحلام والحياة اليومية مثل “باب الدنيا واسع” تعمل على إضفاء بعد فلسفي عميق على التجربة الإنسانية..

شوق بيصحي النجمة من تحت السحابة

يملا دنياك بالصبابة ويسعد الناس الغلابة

يهزم الظلمة المعشعشة في خطى الزمن النبيل

يا منابع حزني يا فرحي الجميل

استني يا حلم الصبا

المواضيع والمحاور الرئيسية

الحياة في زمن الغربة والمعاناة:

يتخلل النص إشارة إلى معاناة الشاعر في رحلة الغربة والابتعاد عن الحياة المألوفة “من عذاب الغربة في قلبي الجريح” مما يعكس الصراع مع الوحدة والحنين للماضي ولاوقات أكثر إشراقا…

استني يا حلم الصبا

ياما كم عانيت وياما هاجرت مني السلامة

والدموع راحت وضاعت من عيوني الابتسامة

جاي جمبك استريح

من عذاب الغربة في قلبي الجريح

الأمل والتجديد

رغم الألم والحنين يبقى الأمل متألقا فالشاعر يأتي حاملًا “حلم السنين المشرقة ” وسط واقع مرير في محاولة لإعادة بناء الذات وتجديد الأماني. هناك تباين بين “حلم السنين المشرقة” و”حلم السنين المتعبة” مما يبرز تحول الأحلام مع مرور الزمن.

الحنين والذكريات

يظهر الحنين في ذكر “الصباحات الندية” و”خيوط النجمة” رموز اللحظات الجميلة العالقة في الذاكرة رغم قسوة الزمن والظروف حمل معه الكثير من الألم والتعب…

استني يا حلم الصبا

انا جاي ليكي شايل معاي حلم السنين المتعبة

وهسع جمبك يا صبية شفت باب الدنيا واسع

الصباحات الندية ساطعة في كل الاماكن

في حكايات الحيارى وفي الشوارع والمساكن

في خيوط النجمة في همس الحنايا

تميزت القصيدة بالتنوع الإيقاع ونبض المشاعر وتدفق الذكريات وتناغم الكلمات مع الموسيقى الداخلية للقصيدة يتكرر النداء “استني يا حلم الصبا” إيقاعا يشبه اللحن الحزين الممزوج بالأمل ويخلق نوعا من الرتابة الجميلة يعزز من وقع القصيدة وأثرها ..

يبدو الانسجام بين الألفاظ والمضمون وتماشى الكلمات المختارة مع معانيها؛ فعبارات مثل “شوق بيتحدى الليالي” و”يهزم الظلمة المعشعشة” تحمل قوة دلالية تشير إلى قدرة الشغف والأمل على تحدي قسوة الزمن والظروف.

يستخدم الشاعر في “استني يا حلم الصبا” عدة رموز  دلالية تحمل صورا فنية ومعان متعددة:

رمزية «حلم الصبا»

يُمثل حلم الصبا رمزًا للشباب والأمل و يحمل طابع الحنين إلى الماضي الذي قد لا يعود. .. حلم يجمع بين الفرح والألم يحوي كل ذكريات الأوقات الجميلة والأوقات الصعبة معًا.

التنقل بين الضوء والظلام

يُستخدم الضوء (النجمة، الصباحات الندية) رمزا للأمل والتجديد بينما يرمز للظلام (السحابة، الظلمة المعشعشة) إلى الألم والعزلة.. التنقل بين جمال الحلم ورقته وقسوة الزمن ..حالة من التأمل في اللحظات العابرة والرغبة في التجدد والتحدي مقابل صعوبة تجاوز الأحزان.

رمزية الانتظار

 يعكس رغبة الإنسان في استعادة ما فاته أو الاحتفاظ بما هو ثمين رغم مرور الزمن..

وسط الاف الصبايا

انا جاي ليكي شايل معاي حلم السنين المتعبة

قصيدة “استني يا حلم الصبا” لمسة فنية وجدانية تتأرجح بين الحنين والشجن، بين جمال الماضي ومرارة الحاضر يستحضر الشاعر محمد نجيب محمد علي من خلال تركيبته اللغوية وأسلوبه الشعري صورا مؤثرة تتحدى الزمن وتجسد رحلة شاعرية مليئة بالذكريات والأحلام تبدأ بنداء حالم «استني يا حلم الصبا» وتستعرض ملامح الحياة التي تحمل معاناة الغربة وفقدان الأمل لتعود في النهاية بدعوة للتجدد والاستمرار رغم الصعاب. تعكس القصيدة أن الأحلام المشحونة بالألم والحنين تبقى نبراسًا يضيء الطريق لمستقبل يحمل وعودا وامالا جديدة وتظل ذكرى الصبا حاضرة في كل الخطاوي على دروب الحياة تُظهر كيف يوازن الشاعر بين الألم والأمل، بين الحنين والحداثة مانحا القصيدة عمقًا إنسانيا وشاعريةً راسخة تجعلها قريبة من قلب كل من يمر بتجارب مماثلة..

الشاعر يحاول لملمة جميع الطبقات الشعورية الدفاقّة..( الضياع.. الغربة..العشم..) بتجسيد ظلال المسافات والامل والذكرى يصوغها الفنان مجذوب أونسة لوحة جمالية جاءت نهاية في الرقة والعذوبة بسبب ما اجتمعت فيها من توالفات شعورية دفاقة .. هذا التماهي الموسوم بدوال الاسى والعشم والدروب الجديدة ورهق الأيام يتعمق في حوارات القصيدة ومناحات الحزن والحنين وحسرات الأورغ ونحيب الكمنجات ينقلنا إلى شي ما.. هناك.. غامض وسحيق..

محمد نجيب محمد علي شاعر سوداني حصل عام 2021 على «جائزة الطيب صالح العالمية للشعر»، ومن أعماله: «تعاويذ على شرفات الليل» و»ضد الإحباط» و»نداء الأجنحة» و»دم العاصفة» و»أناشيد الأسئلة»و»حوارات في تدابير الراهن الثقافي»…

 

شارك القراءة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *