في رحيل الشواطئ والملاذات المطمئنة

227
مرتضى يوسف

مرتضى يوسف العركي

كاتب صحفي

• على أعتاب الرحيل، 

تنازعتني زحمة من المشاعر 

تداخل أمس الزمان مع يومه وغده، فتحاشيت الكتابة، 

ترددت فحروفي أقصر من أن تطاله، وكلماتي أقل من أن تناله.  

فمهما كتبت من شعرٍ فإن أبي في القدر فوق الذي في الشعر قد كتب!! 

فلطالما كان مستتم الجمال وضيئاً جزلاً، 

أودع فيه البارئ أسباب التفرد والتميز والبهاء، 

 كان والداً وصديقاً وراعياً، ماهل الدواخل ورحب المداخل،  بشوشاً لا (ينصر) له جبين، مهولاً لا (تتقطب) له حواجب.   كنت حين يطيب الجلوس لديه أدخل عليه ممازحاً (إزيك يا عم يوسف) فيرد عليّ بكل محبة الدنيا وصفاء العالمين وبساطة الحياة (أهلاً يا ود أخوي). 

والعبارة من إرث أهلنا في كركوج، خصوا بها جدنا يوسف فسرت بينهم عنواناً للمؤانسة والتلاطف.  

كان ــ رحمة ربي تغشاه ــ متكئاً وارفاً ظليلاً، كان غيثاً،  تعهدنا ورعانا، في صمته الناطق وفي نطقه الصامت أهدانا فوق ما نظن وأكثر مما نرجو، 

في حضوره الباهي يعجزني الكلام، وفي غيابه الممتد عاندتني الحروف وتمنعت، فقط جال بالخاطر ما قاله أحدهم:

(لك في الحروف صهيلها وعويلها 

وبيان رونقها وأطلس ليلها النائي وساحلها القديم..

لك في القصيدة روحها ونهار جلوتها وأنفاس الغناء..). 

وسيرة السيد الوالد  تجتاحني بلا استئذان. 

الوالد الذي أمضى حياته بزي الفرنجة ووسامة الأفندية بمكتبه بمباني المديرية الفكتورية بود مدني، 

وبرفقة زميليه – طيب الله ثراهما- الوالدين سعيد الطيب شايب وأمين صديق يقضي طيلة أيام الأسبوع، بينما يوم الخميس يقتادنا لاخضرار حواشة ومنزل أبيه امحمد ود يوسف الحلامابي، لننيخ الرواحل على تخوم ومضارب كركوج الجزيرة وود الحلام وطيبة الشيخ عبد الباقي، والتي سيان تؤتي أكلها إن أصابها غيث أو حتى اكتفت بسقاية ترع المشروع!!

المشروع  الذي رحل ولم يعد ولم يسأل عنه أحد.!!!! 

ثم رحل هو الآخر، 

في ذلك اليوم الذي استلقى فيه بغرفة العناية الكثيفة بمستشفى الإيمان بالرياض..

 حيث لم أرَ يومها أجهزة التنفس وأنبوب المعدة والقسطرة وشاشات القراءة المختلفة

 التي تلتف حوله من كل ناحية وصوب، بقدر ما رأيت صدق حاله مع المتعال ما خفي شأنه على أبصار خلقه.

 اللهم إنه قد كان على ما قد علمته، 

ونحن شهودك يا الله على ظاهر ما نرى، كيف أنه كان، وهو فاقد للوعي ـ  يصلي فروضك، والصلاة على نبيك لم يغفل عنها لسانه، فأيقنت بأن ربي اختار له موعداً ومقاماً، فأفقت يومها على 

(ملائكةٌ تدنو إليه لتنسخا 

سليلٌ لتسبيحِ المجراتِ

ذاهبٌ إلى نايِ مولانا ‘الجلالِ’ لينفخا

أتى من ظلامٍ بالمجاذيبِ ساطعٍ 

وفي حافةِ الضوءِ النهائيّ نوّخا). 

مضيت سيدي ممسكاً بناصية اليقين وعطاءات المتقين، فلله درك!!!  فلقد استحققت مواكب عرس عظيم لا سرداق بكاء، فحيثما تكون ينبع الطهر، وتبسق  وتدر عطاء 

بما استنبت من علائق ورقائق تلامس الوجدان برحابات السماء. 

أعود حيثما أنخنا الرواحل لتلك البقعة الطيبة كركوج، كم نبدو معه حينها كدراويش الطريقة

 يسعون بجينات المريدين المحبة والتي لولاها لما كانت له ولنا حبة، نألفها وتألفنا كحلقة ذكر دانت لها جينات عشق فيما بين جنبات تكية كان يخدم مرتاديها حفياً تسبقه دواخله الصفية الرضية بمعارج قبوله ووصوله لمن حوله،  أينما سار في مديننا الفاضلة المطمئنة بابتسامته الوضيئة 

غير آبه عندما طاله التطهير الحكومي يومها أوان ما ضجت أوروبا بقوميتها 

وأمطرت (مانيفستوهات) موسكو والقومية العربية (took place)، بينما لوح (البنا) بأن حركته هي الحل أو تراق كل الدماء لانقلاب ديكتاتوري نهاية الستينيات. 

ربما كانت جريرته، كما الكثيرون من زملائه الأفندية أيام الصبا، ينتصبون من شرفتهم النخبوية المتماهية 

بقيم التمدن والثقافة حينها ينثرون شعاراتهم الأحفورية.. الحرية، النضال والاشتراكية، لكنما سرعان ما آب واصطفّ مع جذوره الصوفية، وترك أن يقتات من طعام منتهي الصلاحية، وسط حيرة تسرب آمال أصدقائه الرفاق، ربما كان لسان حاله الفيتوري 

(تاج الصوفي يضيء على سجادة قش 

صدقني يا ياقوت العرش 

الموتى ليسوا هم هاتيك الموتى

 والراحة ليست هاتيك الراحة). 

تصالح السيد الوالد قبل الآخرين مع نفسه ومنابعها، فبذلها طهراً، وأزكاها محبات لمن حوله، لم يبحث عن مهرب أكثر من التزامه بيته وصغاره وزوجته، فقد كانت فانوساً يضيء وحشة أيامه 

وموقدها يفور بالشاي الهندي (لاليت)، ترمم أيامه كعادتها رحمها الله. 

لاذ بملكوته الخاص، يصمم أيامه مستغرقاً صيام الخميس والاثنين والبيض، 

لصمته مهابة وجلال تغني عن الجدال، صمته بوابة ضوء نصطف خلفها، نبحث عن مقعد في دواخله المخصبة بالبشارات.

تربّينا على وعيه،  وكبرنا بعباءته فيما بين حدائق صحوه وربا فضائله 

لم يورثنا أطياناً وكنوزاً بقدر ما كان لنا تجربة شاهقة.. كان فيها صديقاً مستمعاً ومستمتعاً بالحوار.. 

لم يكن يفرض وصاياه، كان يتخللنا بالنصيحة، كأن كوة ضوء براقة ملهمة لقدراتنا على التلقي والاستماع 

والتفكر والتشارك في كل الأمور.. فكانت أغلى إرث وأعذب تركة.

خرجنا منه مكتنزين بالعطاء واليقين، فقد علمنا أن نسعى لتشجير المكان والزمان

 بغابات التواصل، الذي سيغيثنا من التصحر والموات ونثر الحكايات والأزاهير في مساءات المدينة الحالمة.

كانت أجندته التي توضأ بها عملاً عاماً منذ أن كانت كروت التموين والسكر الذي يحرص على توزيعه على المواطنين بعدالة ومساواة في دكاكين الحي، لم يجنِ منها إلا رهقاً حتى آواخر الليل لكونه رئيساً للجنة حي المدنيين مربع (7). 

أو عندما فاز بدائرة المثقفين بمجلس المدينة في مواجهة مدير مشروع الجزيرة لاحقاً د. أحمد البدوي 

أوان حكم مايو، والذي كرست له عشرات العربات من إدارة مشروع الجزيرة، لنقل الموظفين للتصويت له، وبرغم ذلك خسر أمام الوالد بأصوات شاسعة، علق عليها حينها زميله الساخر جداً يعقوب موسى – رحمه الله- (فزت بالمحبة).  

نعم فقد كان فقيراً أعزل إلا من المحبة بسعيه المتمر بالأدب بين الناس،  

فمنزله القائم تكرمت عليه الدولة بسلفية قدرها ألف جنيه من البنك العقاري، أمضى كل عمره في سدادها بواقع جنيه كل شهر، ليمضي مطمئناً طاهر الأثواب، عفيف اليد واللسان، فلا غرو إن ذهب إلى رحاب سنية وجنابٍ حانٍ وهو راضٍ. 

فليبكي جميعكم معي حزناً على أبي، 

 أعطوني عيوناً أبكي بها فقد جفت مدامعي.

اللهم ثبتنا على ما أحب لنا أن نكون عليه في ديننا ودنيانا نحن وذريتنا، وشفعه فينا بفضلك ومنّك يا رب العالمين. اللهم أنت تعلم ما تكنه الضمائر، وما نقول وما نفعل، عجزت بنا قوانا عن النهوض بأداء ما لك علينا من حقوق، وضعفت هممنا عن السعي فيما أرشدنا إليه الصادق المصدوق، والطمع فيك يدعونا إلى كثرة السؤال، وحسن الظن بك يبشرنا ببلوغ الآمال، وأنت غني عن عمل العاملين، وحقيق ببذل السؤال للسائلين، فنسألك اللهم بلسان شهد لك بالتوحيد، أن تجعل والدي يوسف ود بتول الجودلية 

من صالحي العبيد، وأن تفتح له فتوح العارفين، وأن تجمعه في جنانك بعين وحق اليقين.

اللهم آمين.

والحمد لله من قبل ومن بعد.

سبحان من كتب الخلود لنفسه وجعل الموت سنة جارية في عباده. 

(إنا لله وإنا إليه راجعون).

 

شارك المقال

1 thought on “في رحيل الشواطئ والملاذات المطمئنة

  1. مرتضي يوسف العركي
    أفصحت وأجدت التعبير عن فقد كم الكبير
    .عم يوسف! تقبله الله فيمن عنده من الشهداء والصالحين .ولكم جميل الصبر والسلوان..

    لقد ابكيتنا
    ….تقبل عزاؤنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *