في ذكرى الشيخ إبراهيم الطيب الريح (وما العمر إلا حصائد للآخرة)

44
إبراهيم الريح
Picture of د. أبوبكر شداد

د. أبوبكر شداد

طبيب وكاتب مقيم في إنجلترا

• ولد الشيخ إبراهيم الطيب الريح في عشرينيات القرن الماضي بمدينة رفاعة وتلقى فيها تعليمه الأولي ثم التحق بكلية غردون التذكارية. عمل بالتجارة عقب تخرجه عام 1943م وامتد نشاطه التجاري إلى نيجيريا، حيث لحق بعمه القاضي الشرعي الشيخ البشير الريح «مكتبة البشير الريح بأمدرمان». المنتدب من قبل حكومة السودان لتأسيس كلية اللغة العربية والشريعة الإسلامية في نيجيريا. واصل الشيخ إبراهيم الريح أعماله التجارية الناجحة في نيجيريا وامتد نشاطه إلى العاصمة البريطانية لندن التي أنشأ فيها مكتباً للاستيراد والتصدير.

عمل الشيخ إبراهيم الريح مع الجهات الأكاديمية في إنجلترا على تخصيص منح دراسية من جامعة كامبريدج للطلاب السودانيين ليستفيد الطلاب السودانيين من بعض المنح المخصصة حصراً لطلاب دول الكمنولث، لكن تمكن الشيخ إبراهيم الطيب بعلاقاته من ادراج الطلاب السودانيين للاستفادة من هذه المنح رغم أن السودان ليس عضواً في مجموعة دول الكمنولث. تحكي سيرة الرجل الكثير من أعمال البر والخير في العمل الإنساني والاجتماعي في أوساط الجالية السودانية في إنجلترا.

في أوائل التسعينات كتب أحد الأطباء الشباب رسالة إلى الشيخ إبراهيم الريح يخبره فيها أن قسم أمراض الكلى بالمستشفى الذي يعمل فيه الطبيب في لندن بصدد تغيير كامل ماكينات الغسيل الكلوي مما يعني عدم حاجة المستشفى إلى عدد من ماكينات الغسيل الكلوي والتي تنوي إدارة المستشفى التبرع بها إلى أي جهة تحتاجها. ذكر الطبيب الشاب في رسالته أنه حصل على موافقه المستشفى بالتبرع بماكينات غسيل الكلى للسودان وذكر حوجته إلى مبلغ خمسمائة جنيه إسترليني لصيانة بعض الماكينات وإلى تكلفة شحن ونقل الماكينات إلى السودان لتكون نواة لمركز غسيل الكلى في مدني (مستشفى أمراض الكلى حالياً). ولم يخيب الشيخ إبراهيم ظن الطبيب الشاب الذي لم يكن يعرفه قبلها وقام على الفور بإصدار شيك بمبلغ ألفي جنيه إسترليني لصيانة ٤ ماكينات غسيل كلوي من طراز ( Gambro Ak10 )بواسطة الشركة المنتجة للماكينات تمهيداً لتجهيز وشحن الماكينات للسودان. كانت هذه الحادثة بداية لتبني الشيخ لمجموعة (سلامات) الخيرية والتي ما تزال تعمل في مجال التدريب والعلاج الخيري عبر قافلتين كل عام، حيث تولى ذلك الطبيب الشاب لاحقاً رئاسة جمعية سلامات الطبية ولا يزال عضواً مهماً وعاملاً في سلامات، بعد أن أكمل تخصصه في أمراض الكلى وحصل على درجة الأستاذية في الطب وهو البروفيسور عبدالجليل عبدالرحمن.

تكفل الشيخ إبراهيم الطيب بتمويل قوافل سلامات الطبية لعدة سنوات بعدها، مما ساعد كثيراً في توسع الخدمات التي تقدمها سلامات.

من الأفكار المهمة والتي تعكس إيمان الشيخ إبراهيم بالمؤسسية كان هو تأسيس (المجلس القومي السوداني) وهو منظمة خيرية مسجلة في إنجلترا، تأسست العام 1994. ضم المجلس القومي السوداني في عضويته عدداً من الشخصيات السودانية القومية وقيادات المجتمع السوداني وذلك لتنظيم الاحتفالات بالمناسبات القومية السودانية لتأصيل ارتباط الأجيال الجديدة بالمناسبات السودانية الوطنية ولكي تقود المبادرات وترعى المشاريع الخيرية للمجلس. ضم المجلس القومي السوداني الأول كلاً من السادة: جوزيف القو، دكتور أيوب بيه بروفيسور بقادي، بروفيسور الطيب أبو سن، حسن تاج السر، الدكتور أحمد الضوي، السير أحمد بدري، السيد مدير الخطوط الجوية السودانية مكتب لندن، بروفيسور عبدالجليل عبدالرحمن علي، الجراح بروفيسور كمال أبوسن وآخرين. شملت نشاطات المجلس القومي السوداني العديد من أوجه العمل الخيري وذلك بواسطة لجان يكونها المجلس تطلع بمهام محددة مثل دعم بعض طلاب الدراسات العليا من المبتعثين السودانيين لإكمال درجاتهم من دكتوراة وماجستير بعد أن تم إيقاف التحويلات المالية للمبتعثين بواسطة حكومة الأنقاذ أوائل التسعينات. دراسة حالات المرضى من السودانيين طالبي العلاج في لندن عندما تتعثر ظروفهم المالية وإكمال تسديد فواتير العلاج. 

• لم يكن الشيخ ابراهيم الطيب سياسياً ولم يعرف له انتماءً إلى طائفة أو حزب أو جماعة، إنما كان ينتمي لهذا الشعب السوداني بكل طوائفه وانتمى أيضاً إلى بلده الثاني نيجيريا التي عاش فيها شبابه وكون فيها أعماله وأمواله وثروته. كان الشيخ قومياً بمعنى الكلمة، وكان بيته مفتوحاً للوزراء والمسؤولين السابقين من عهد نميري، وفي الفترة الديمقراطية وفي فترة الإنقاذ. وكان يرى في كل هذه الشخصيات مفاتيح للعمل الخيري وقيادة مبادرات تحسين الخدمات في السودان.

• قام المجلس القومي السوداني بتنظيم عدد من الندوات عن السلام في السودان، جمع فيها ممثلين للحركة الشعبية والحكومة السودانية وكانت الندوة ناجحة وكانت لبنة أولى لبداية محادثات السلام في السودان، كذلك اقام المجلس القومي السوداني ندوة عن التعليم العالي في السودان دعا إليها القائمين على التعليم العالي من الحكومة ومدراء الجامعات السودانية وذلك بتمويل كامل للوفود العلمية من حساب المجلس القومي كما دعا عدداً من مدراء الجامعات البريطانية لبحث إمكانية ربط بعض الجامعات السودانية بالجامعات في البريطانية. وقد أثمرت تلك الجهود في ربط بعض جامعات والسودان بمكتبة جامعة كاردف الكترونياً.

كذلك أقام المجلس القومي السوداني أول مؤتمر للأطباء السودانيين بالخارج في لندن، ناقش الموتمر الخدمات الصحية في السودان وطرق دعمها وتحسينها. تكونت بعد ذلك لجنة علمية لدعم الخدمات الصحية والتعليم الطبي في السودان وساهمت في دعم الجامعات الولائية الحديثة حينها بالكتب والمراجع العلمية في مختلف التخصصات. شمل نشاط المجلس أيضاً إرسال قوافل تدريب بيطرية وزراعية إضافة إلى قوافل تدريب في تخصصات تقنية المعلومات والصحافة والهندسة.

كان للشيخ إبراهيم الريح رغبة أكيده في إعادة أحياء نشاط زراعة الكلى في السودان والتي كان للسودان قصب السبق فيها على مستوى القارة الأفريقية والمنطقة العربية في سبعينيات القرن الماضي بمجهودات البروفيسور عمر بليل، رحمه الله، لكنها توقفت بعد ذلك بقليل. لذلك وجه الشيخ إبراهيم الريح مجهوده عبر المجلس القومي السوداني لتحقيق هذه المهمة، وقد ظهر هذا الاهتمام جلياً بالدعم اللامحدود الذي وفره الشيخ إبراهيم الطيب الريح من خلال المجلس القومي لهذه الفكرة عبر مجهودات البروفيسور كمال أبوسن، رحمه الله. وقد كان للجهد المشترك للشيخ إبراهيم الطيب الريح والدكتور أبوسن نتائج إيجابية كبيرة وسريعة في نجاح إحياء مشروع زراعة الكلى في السودان

وتقديم الخدمة بدون مقابل للمواطن السوداني. فقد تم إنشاء مراكز لزراعة الكلى في ثلاثة مراكز رئيسية، في كل من مستشفى بن سيناء في الخرطوم ومستشفى أحمد قاسم في بحري وفي مستشفى أمراض وزراعة الكلى في مدينة ود مدني. ونسبة للدعم الكبير فقد تطور مركز أمراض وزراعة الكلى في مدني ليصبح أكبر وأهم مركز لزراعة الكلى في السودان. إذ قام الشيخ ابراهيم الطيب الريح بتمويل قيام معمل متكامل وحديث لمطابقة الأنسجة (typing tissue) في مركز ود مدني وتم ابتعاث عدداً من العاملين والفنيين للتدريب في لندن لتشغيل المعمل وهو يعد الآن المعمل الرئيس في السودان لتطابق الأنسجة والذي يقصده المرضى من كل أنحاء السودان.

بعد هذا الجهد الكبير من قبل الشيخ إبراهيم الطيب الريح انطلقت عمليات نقل وزراعة الكلى ليتم إجراء المئات من العمليات تحت إشراف البروفيسور كمال أبوسن وتم خلالها تدريب العشرات من الجراحين والكوادر العاملة في مجال زراعة الكلى، حتى تمكنت هذه الكوادر من القيام بهذه العمليات بخبراتها التي اكتسبتها. ولم يكتف الشيخ إبراهيم الطيب الريح بالنجاحات الكبيرة التي تحققت لمشروع نقل وزراعة الكلى في السودان بل قام بنقل هذه التجربة الناجحة إلى وطنه الثاني نيجيريا إذ تم عمل برنامج زراعة كلى مماثل لبرنامج السودان هناك، لتكون المرة الأولى التي يتم فيها إجراء عمليات زراعة الكلى في نيجيريا بمبادرة وتمويل من الشيخ إبراهيم الطيب الريح والكوادر السودانية، امتدت هذه المجهودات لاحقاً إلى دولة تشاد والتي توفي فيها رائد زراعة الكلى السوداني البروفيسور كمال أبوسن إبان إحدى زياراته للتدريب في مدينة انجمينا عاصمة تشاد، رحمه الله.

وفي نيجريا وطنه الثاني، امتدت أيادي الشيخ إبراهيم الطيب البيضاء بعدد من المشاريع الخيرية هناك، إذ أنشأ معهداً متخصصاً لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها. يضم المعهد آلاف الطلاب النيجيريين الذين يتعلمون ويدرسون دبلوم اللغة العربية على نسق مناهج معهد بخت الرضا وذلك بتمويل كامل من الشيخ إبراهيم والذي يشمل كافة المنصرفات بما فيها رواتب العاملين وإعاشة الطالب، تكفل الشيخ بنفقات المعهد منذ تأسيسه وحتى وفاته، رحمه الله. 

مما يذكر عن الشيخ إبراهيم الطيب الريح دوره الكبير في ترتيب عودة صديقه المقرب الأستاذ الطيب صالح، رحمه الله، إلى السودان بعد غيبة طويلة في العام 2005 وقبيل وفاته بأعوام قليلة. كان الشيخ إبراهيم الطيب الريح يرافق القوافل الطبية إلى السودان في كثير من الأوقات وكان، رحمه الله، محل تقدير واحترام قيادات المجتمع السوداني في كل بقاع السودان وتم تكريمه في مرات عديدة من شخصيات كبيرة مثل السيد الصادق المهدي و الدكتور دفع الحاج يوسف وزعيم قبيلة الفونج في الروصيرص وكذلك من عدد من زعامات الطرق الصوفية مثل زعيم الطريقة التجانية في نيالا والشيخ البرعي في الزريبة والشيخ الجعلي في كدباس.

لعل ما ذكرناه هنا هو قيض من فيض هذا الرجل الفذ، نسأل الله أن يتقبل منه وأن يتغمده الله بواسع رحمته بقدر ما قدم من أعمال الخير والبر والإحسان .

*بعض المعلومات عن سيرة الشيخ منقولة من موقع تأبين الراحل الكبير، رحمه الله. وأرجو أن أرسل جزيل شكري لإخوتي وأساتذتي البروفيسور عبدالجليل عبدالرحمن والبروفيسور بقادي، على مراجعة المقال والمعلومات والإضافات القيمة مما دفعني لإعادة كتابة المقال.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *