فى الذكرى الرابعة للرحيل: ورود حمراء من أجل عيسى الحلو ١٩٣٧ – ٢٠٢١ – (١)

953
Issa01
Picture of محمد نجيب محمد علي

محمد نجيب محمد علي

المشرف على النبض الإبداعي بصحيفة فويس

( أنا أؤمن بالله ، وحين أتذكر أنني سأموت وأن الله موجود أحس براحة واطمئنان ) 

 عيسى الحلو 

من آخر حوار معه  قبل رحيله بشهر واحد

« توفيت زوجتي ، وتركت لي الأبناء في أعمار ( ٥ ، ٦ ، ٧  و ١٢ ) كنت وقتها في بدايات العقد الرابع، النقود التي كنت أتقاضاها كراتب لم تكن مجزية ، ولم يكن لنا بيت، فعركت الحياة العملية ، وعملت في صحيفة الأيام محرراً وغيرها من الصحف. كنت أذهب في الصباح لأعمل وكذلك في الليل. وفي بعض الأحيان أخرج مبكراً من العمل لغشوة السوق لشراء الخضار واللحمة وآتي لصنع الطعام لأبنائي وأقوم بنظافة البيت وغسل الملابس. لم أتزوج بعد أمهم . تعبت وعانيت لأجلهم كثيراً. ما بين الكتابة والتفكير وعمل اليوميات والراتب الذي ينقسم للمعيشة والتعليم .. والحمد لله تخرج أبنائي من الجامعات . . وهذا المنزل كنت أدخر كل شهر جزءاً من المال لمواد البناء لمدة ثلاثين عاماً حتى اكتمل . مع كل هذه المعاناة لا يوجد كتاب لم أمتلكه، لم تغب عني الأمور المعرفية الحديثة إلا وعرفتها لم أتوقف عن الكتابة، الآن رغم مرضي هناك كتاب اقرا فيه يشغلني عن (الأسلوبية) ، فعملت على بناء حياتي بعناء أحسبه لذيذاً وشاقاً، محبتي وشغفي لشراء الكتب مستمرة منذ مكتبة الحضارة في الخرطوم».

الروائي السوداني/ عيسى الحلو  فى حفل  تكريمه من حكومة الشارقة في فعالية بيت الشعر الخرطوم

خارج الزمن: عيسى الحلو

يضيء سراديب الثقافة وكهوف الوطن

د.عبد الماجد عبد الرحمن الحبوب – السعودية

• استَمع للناي غَنَّى وحَكَى

شَفَّهُ البَينُ طويلا فَشَكا

مُذُ نَأى الغابُ وكان الوطنا

مَلأ الناسَ أنيني شَجَنا

أين صَدرٌ من فِراقٍ مُزِّقا

كي أبثَ الوجدَ فيه حُرَقَا

كُلُّ نادٍ قد رآني ناديا

كُلُّ قومٍ تخذوني صاحبا

ليس بين الروحِ والجسمِ حُجُب

غير أنَّ الروحَ عنا تَحتِجب

إنَّ صوتَ الناي نارٌ لا هواء 

كُلُّ مَن لم يَصلها فهو هَبَاء 

هي نارُ العِشق في الناي تثور 

وهي نارُ الِعشق في الخمرِ تفور

(من قصيدة أنين الناي.. لمولانا جلال الدين الرومي، ديوان المَثنَوي- ترجمة عبد الوهاب عزام)

لم يكن عيسى الحلو كاتباً ولا إنساناً عادياً..  لم يأت ليذهب.. بل جاء ليستقر عميقاً ويستديم في طيّات ثقافتنا وأدبنا وحداثتنا وتوقنا الدائم نحو الجديد والمختلف.. حيث لا هوية للكاتب إلا السحاب .. ولا لغة له غير الشجر.. ولا وطن سوى الريح !

كان طاقة هائلة تجوب الآفاق والسراديب بحثاً عن الضوء، عن المنسي، عن الجديد.. يُجري اللقاءات الصحفية مع الكتاب والشعراء والنقاد في كل مكان.. في أي ركن.. أي زاوية صغيرة.. زريبة حطب.. سوق شعبي .. مركز ثقافي فخم أو مكتب أستاذ في جامعة.. الخ.. فتخرج الحوارات في صباح اليوم التالي على صفحته وملفه على الصحف.. تمتع وتفيد وتثير جدلاً في الساحة الثقافية.

هكذا فضّل الحلو أن يكون.. شوَّافاً وبصّاراً وشمَّاماً ولمَّاساً وذَوَّاقة.. لم يكد كاتب ومبدع سوداني كبير منذ أكثر من نصف قرن قبل رحيله الفاجع والهادئ في آن، لم يمر بنافذة عيسى الحلو..» من لم يخرج من معطف عيسى الحلو؟؟» يتساءل صديقه الشاعر محجوب كبلو. 

كان تلميذاً-معلماً مدي الحياة ومعلماً-تلميذاً مدى الحياة.. مدى الحياة..  ولد كاتباً بأسنانه بريش الببغاء ( 1967).. وختمها شيخاً مجدداً مُجَرِّباً لا ينفك.. يرى ما لم يحدث وينساه في الوقت ذاته (نسيان ما لم يحدث)—آخر رواياته.. وآخر رسائله المفتوحة ونبوءاته البصيرة . وبين المحطتين- المتحركتين كان الحلو مكانياً بلا زمن، وزمانياً بلا مكان.. يتحرك باستمرار ويدور في «زمنه الخاص» كما لو كان واحداً من شخوصه الروائية والقصصية.. يأتي الحلو ويذهب، ثم يدور حول الأشياء من جديد، ناظراً إليها من تحت ومن علٍ ومن على الجنبين.. هكذا يشكل زمنه ويشتكل به. يكتب: الوهم- مداخل العصافير الى الحدائق- حمى الفوضى والتماسك- البرتقالة – وماذا فعلت الوردة؟- صباح الخير أيها الوجه اللامرئي الجميل.. الجنة بأعلى التل- قيامة الجسد.. عجوز فوق أرجوحة.. ألعاب نارية.. الورد وكوابيس الليل.. رحلة الملاك اليومية.. الخ. كان الترتيب الزمني في إصداراته لا يعني له شيئاً، كما لا يعني له الزمن شيئاً في السرد.. فالزمن عنده دوارٌ وجوالٌ ومتصل ولا فواصل بين أجزائه.. كان يعشق – مثل متحدثي لغة الهوبي Hopi الذين ثار جدل اللغوين منذ ثلاثينات القرن الفائت، حول مفهوم وفكرة الزمن المختلفة في لغتهم وفي تركيبها حيث لا تشبه مما يفهمه متحدثو اللغات الأوربية وغيرها من تقطيع الزمن: ماضي-حاضر-مستقبل. إنما الزمن في لغة الهوبي وبعض اللغات التي درسها بعض اللغويين هو عملية مستمرة بلا فواصل محددة، وفي بعضها المستقبل ليس أمامنا والماضي ليس خلفنا. في أحاديثه وأنسه وكتاباته كان أستاذنا الحلو يشعرك بأن فكرة «الزمن» هكذا تماماً كما يراه متحدثو هذه اللغات.  كان نسبوياً بامتياز.. ذو حساسية زمكانية مميزة.. ولكنها زمكانية ذات بعد كوني أيضاً.. مما قد يكشف بعض السر في البعد الفلسفي المهم الذي يبقى مبثوثا على الدوام -دون أن يجد سبراً كافياً حتى الآن- في كتابات الحلو على نحوٍ عام!

 وهكذا.. يأتينا الليلة هذا الرجل النادر العظيم في عيد حضوره الرابع البهي.. كالهواء كالنار كالغيم. يأتينا هكذا .. كُلّاً واحداً ومتعدداً في آن.. ونظل ندور معه في «زمنه الخاص» في كتاباته وأبعاده الأخرى.. أعمدته الصحفية النقدية-الفلسفية المتعددة خلال مسيرته الطويلة والتي تتخذ أسماء متنوعة.. ريفيو صحفي.. ديالكتيك..الخ وصفحاته تلك الخاصة التي يكتبها ويحررها بالكامل.. مثل «قوة الأشياء» صفحة متنوعة ومميزة للغاية.. حواراته الطويلة المتعددة.. تلك أجراها مع عدد هائل من الكتاب والمثقفين وتلك التي أجريت معه (حوارات الأستاذ محمد نجيب معه، مثالاً)..  حواراته وبرامجه التلفزيونية (برنامج حوار الفنون، مثلاً).. وهو برنامج كان يتبع فيه فلسفة «الحوارية «Dialogism» الباختينية إذ يأتي بفاعلين في المشهد الثقافي من مجالات وتخصصات وأجيال وخبرات مختلفة ويدير معهم حواراً ذكياً ينفذ من خلاله للنقطة المشتركة والخيط الناظم والمعنى الكلي للأشياء ! 

عيسى الحلو.. يضئ خارج الزمن.. أحاديث وذكريات ومؤانسات عديدة وعزيزة وحبيبة تتقافز في الذاكرة.. في مكاتب الصحيفة.. في البيت.. في النصوص.. في التلفون.. إنها غير قابلة للاختصار والاختزال.. ولكن لنسمها هنا مجازاً «شهادة» من تلميذِ مقدرٍ ومحب !

 

في ذكرى غيابه ..

رسالة إلى  عيسى الحلو 

عامر محمد احمد حسين – شندى

• في غيابك اطفأت الخرطوم انوارها، واختفت المارة من شوارعها ، سكن الشيطان مبانيها واستدعى ذريته، ولم تات للزيارة  والاطمئنان على الاسرة ،بل للأقامة واختيار المباني الملائمة والمواءمة بين مطلوبات الحياة اليومية للعفاريت كي تتحقق نبوءة كبير السحرة . .اعلم ان مغادرتك كانت في قياس الزمن والوجود قمة الألم والحزن لكل من عرفك او تعرف عليك ،وقرأك وجالسك ودخل عوالمك القصصية، وتمعن في كل ماكتبت..توقفت الحياة تماماً. الظلام هو عنوان شارع صحيفة الرأي العام، او الزقاق  بلغة  الشارع وضيقه ومابين» الاسامي الشعبية» للشوارع ومحطة الحداثة تكمن كل الاجوبة على الاسئلة..في تلك المنطقة القديمة المعطرة بعبق التاريخ هنا جلس احمد باشري بكل اناقته في الشتاء والصيف  والخريف..ضحك طويلاً احمد بقادي لنكتة من جاهوري وهو يمسك فنجال القهوة وكوب شاي وبين يديه كاميرا يرسم بها في عبقرية مشاويره من السكن الى الشارع الى الصحيفة، ماكان يصور بل يرسم بريشة فنان ماهر وانيق صورة الخرطوم في عفويتها ،وغضبها ،وضجيجها، وغبارها ، بسمتها الخفيفة عند نزول المطر..في الركن الهادي وسط الضجيج تجلس باناقة وانت تستمع ليوسف الشنبلي في هدوء وانتباه ملك الحكي يستمع لذاكرة الصحافة.نمر ونجدك قد انتهيت من عملك اليومي وما اجمل الجلسة ومجذوب عيدروس يحلق بنا في عوالم الكتابة والثقافة والنقد . .يجلس الاستاذ عيسى الحلو في مكتبه  بكامل حضوره  زيارة عمل او غيرها ، هي فرصة لاتعوض إذا ما تحدث عن قضية ما او تعليق عن حدث ثقافي او عاد بك الى فترة ما ..يساله محمد نجيب عن المدارس الفكرية فيتحول السؤال إلى موعد لحوار في بيته بامدرمان وتتجدد الاسئلة وتتحول إلى حوارات  .ماقيل عن وجودية سارتر وهل هناك من فهم الوجودية فهم صاحبها لمدرسته والاجابة القاطعة عند استاذنا.. النفي…يكتب الاستاذ عيسى في رواية جديدة ..ياسلام..الاستاذ نصرالدين الجيلاني يتابع الطباعة والتصحيح، مع شغله في القسم الرياضي..سقى الله ارض نصرالدين وقد حالت الحرب دون التواصل معه وموقعه في الداخل او خارج السودان..

استاذنا الجليل..

في غيابك هناك تتجدد الاحزان برحيل الاحباب وشتات الصحاب ،وكم كان سؤالك عن الحرب واجابتك مهمة لترتيب البيت وهندسة الواقع، وكيفية التغلب على الصعاب.الخرطوم الناس بعيدة عنها وتسأل عن تحريرها فإذا تم التحرير .جاء سؤال التعمير .كل من اظهر سخريته حول مقولة الزعيم الخالد اسماعيل الازهري- تحرير لاتعمير – كانت المقولة حاضرة بقوة امامهم، وهم يبحثون عن التحرير ،ومن بعد التعمير دعاة فقة الاولوية هم الاكثر سخرية ايام احلامهم ،ومن بعد سلطانهم من مقولة الزعيم – كم كان صالحاً ومصلحاً الزعيم.. الحقيقة المرة ان الحرب لم تدع لنا الوقت الكافي للتجوال في شوارع المدينة قبل دخولها الحالة الحميدتية ،اي مرحلة سكن القطط العمارات – اعلم انك تكره السياسة ولكنها تخريمة من اجل نقل حالة الاماكن التي تحبها ، اظلمت الشوارع ،واستسلمت لحظها التعيس لم تكن تعلم حجم الحقد، ولكنها عاشته .خرجنا بعد حريق مستودعات الشجرة الخرطوم لقرب المسكن من الحريق ، واشتعال النار .شرطي سابق تم توقيفه في مخرج المدينة إذ ان مدخلها كان مغلقاً بعربات مصفحة وجنود من كل الالوان .الشرطي السابق داخل رقشة / ركشة ، يريد مغادرة المدينة ، طلب منه المرتزق البطاقة؟ .كنا في حافلة تجمع اسر خرجت مسرعة من الحريق والدخان الاسود ، سحابة سوداء بالليل امطرت، وإذ اخرج يده لم يكد يراها ، تحققت الصورة من الآية ، لملمت اوراقاً وملابساً قليلة وان العودة قريبة الكتب التي كنت اقراها ، حنة آرنت وبكري خليل وهوبزباوم وروايات وعلم اجتماع ومسودات لكتب كلها تركتها كما هي مع مجموعة كبيرة من الكتب وذكريات..المرتزق انزل الشرطي وصرف سائق الرقشة / الركشة ، واشار بغضب الى مرتزق يجلس بعيداً ،ويلبس كدمول ، استولت الفئران المرتزقة، على مداخل ومخارج المدين،ة وعواء الذئاب يسيطر على الفضاء ، الاشجار شاحبة والمباني حزينة ،والمعاني غائبة..الشرطي المسكين بلاشك وإيمان وثقة ان المجرم المرتزق بكدمول العمالة لن يتركه يذهب.التاريخ العاشر من يونيو ٢٠٢٣ واليوم كان السبت وآخر هدنة في تاريخ الحرب .في المايقوما الحاج يوسف ، تمنى لنا الجندي وهو السوداني الوحيد في رحلتنا ، تمنى لنا الوصول بالسلامة..في محطة حطاب ، احسسنا بالفرح وضباط وجنود الجيش السوداني ، يقابلوننا بكل لطف ومحبة ، حتى إذا وصلنا الى نقطة فارقة في طريق سفر الخروج وفجاة وقف المرتزق طويل القامة وهو يلبس ( الافرول الازرق ) كان سخيفاً وبليداً ويبدو ان له رسالة خاصة مكلف بها فقد سمعنا لأول مرة ان الطالب في جامعة امدرمان الإسلامية هو في الحقيقة المرتزقية « اسلامي او إسلاموي « قال لي اخي وجاري بان هذا سوداني من ملامحه وسياسي وضحك طويلاً وقال بسخرية : «اسلامي مرتد « ربع ساعة من سخف صاحب الافرول انتهت بسلام .إنهماك المرتزقة بتغيير ملامح السيارات المسروقة بالطلاء للتغبيش ضد الطائرات الحربية. وصلنا محطة( جبل جاري) ، آخر نقطة في مملكة آل دقلو  الافتراضية هي (جبل جاري ) وهو جبل عمره من عمر الزمان. استولت العصابة على الجبل، وسعت من اجل جعله اخدودا به تنفذ نحو ولاية نهر النيل ،بعد السيطرة على مصفاة الجيلي، والمنطقة الحرة في منطقة (قري ) .من بعيد ظهر ( الشبح )ومن كان بالقرب منه يتوضا، سوداني الملامح واخذ ينظر من بعيد والليبي اللسان يقترب من مركبتنا ويدخل راسه في كابينة القيادة، بسرعة تدل على انه لايقرا ولايكتب نظر في بطاقة نزار ثم ارجعها وخاطبنا قائلاً : قالوا ليكم الدعم بستولي على بيوت المواطنين ..السؤال من قال لنا..استدرك بعد ذلك وصاح بلكنة ليبية واضحة : الحرب انتهت ، الكباشي ومات – الإشارة للفريق اول شمس الدين الكباشي ، المرتزق التعيس اخبروه بان الكباشي قد قتل وكانت نغمة المرتزقة هي شيطنة كل من يرونه العدو ،وفي كل مرحلة يتم اختيار قائدا ما وشيطنته في مقابل انسنة القتلة المناكيد حتى وصلوا الى مرحلة الفريق أول ياسر العطا واتمام الشيطنة…

استاذنا  الجليل.

في حوار معك لصحيفة الوطن القطرية، قلت لي: ان الرواية تستوعب فوضى العالم. مقولة تختصر في دقة الوصف كل قراءة للرواية في الراهن.إلا انها تحولت إلى  فوضى كتابة الرواية ،على عكس قراءة كاتبنا الكبير. و هل هي  جزء من مؤامرة كونية ضد السرد؟ احتمال !! .كنت تعي تماما دور الكتابة السردية ،واهميتها ولكن اي كتابة التي كنت تحرص عليها وتكتبها وتنشرها ، بالفعل هي التي تستوعب فوضى العالم وتحولات الإنسانية، وتبدلات الحياة ،وبخيال خصب وافر وتخييل ونص متجاوز للعادية..استسهال الكتابة وفوضى الكتابة الضحلة والرخيصة في سؤال السرد الروائي تستثمر فئات ضعيفة الموهبة في فوضاها الخاصة، بدون بصيرة او معرفة بالكتابة او مسؤولية الكاتب الإبداعية والاخلاقية..الاستسهال للكتابة اصبح في السنوات الاخيرة بوابة النجومية وتفخيم الأسم( روائييي )، واستمرار هذا النهج يساهم في اضاعة التراكم ولكم ان تعلموا ان القصة القصيرة وهي الاكثر تعبيراً عن العصر ،وسرعته ولصعوبتها يكتبها الآن قلائل اصحاب موهبة ،وثقافة ،ومهارة. نادي القصة لسنوات ساهمت منتدياته في تقديم اصوات جديدة وورشة السرديات وحضورالاساتذة عيدروس وعمر شاع الدين وعبدالكريم عبدالفتاح  وشابو واحمد الصادق وخالد بابكر وحسب الباري سليمان  ووفاء طه وزكية احمد عيسى واعضاء واصدقاء النادي .هذه الورشة كانت مدرسة وتقويم طريق وتمهيد الارض للموهوب المثقف لاكتشاف موهبته وكيفية تنميتها بالقراءة ،ومعرفة اصول كتابة القصة ، كل ذلك تبخر مع واقع السنوات الاخيرة ومرارة الحياة وحصارها..

استاذنا الجليل..

إن نسيان ماحدث ، لن يدرك صاحبه « نسيان مالم يحدث – روايتك « هي نسيج مختلف لكل ماقراناه من سرد ، مساحة واسعة لحوار الكائنات لتاريخ مطموس ،وبعيد ومبعد ، احلام جيل عاش ايام مع الاستعمار واكتوى بنار مابعد الكولونيالية – خذ المثال وقارن الدولة الوطنية ومتاهة تشكلها حسب وجوه الثقافة والفكر والتعليم ، ستجد ان من قال بانه التابع والمهمش – ما ان يصل السلطة يهمش كل من يعرف ويرفع لواء الدفاع عن التهميش- خذ مثال الكتابة الفطيرة والكاتب الفطير ، ستجد ان كل نضالات السابق حول التنوير ،والكتابة والوجودية، وما الادب لسارتر ، في كل العالم تمثل الماضي الذي يرفض الكتبة في كل ارجاء الكون عودته ، الاصالة واحلام الستينيات وحفركم على الصخر ، يغيب عن قصد وترصد من قوى الضحالة .العالم المتغيرة احداثياته هو العالم الذي تطير طائراته بلاطيار لكي تصل جنوده المهووسة ،ان يكتب البديل الذكاء الاصطناعي ويتخلى صاحب الخيال عن خياله، ويتبع اثر الذكاء في صراع العقل والمادة .إلى اين وصلنا ، لا اجابة واضحة وكيف سنخرج ؟ ايضا لا اجابة..

انا على الوعد والعهد باكمال الكتاب الذي وعدتك به عن مسيرتك في الكتابة وكنت قد اكملت معظم الدراسات النقدية وجاءت الحرب والوعد قائم بأن الكتاب مع الدراسات يشتمل على الحوارات مع المستنير المفكر السارد ،ومشاوير لم تكن إلا حضورا في حضرة الفكر والثقافة ،والقلب الطيب، وروح الوالد والإنسان والموسوعي المعرفة..برحيل الاستاذ عيسى الحلو غاب النجم والسارد والمثقف ،وحزنت الخرطوم ولبست الثوب الابيض في حداد يخالف بقية شعوب العالم للتفرد المتميز به الشعب المتحضر والصابر على بلواء عديدة وعظمة الامتحان..اللهم اغفر وارحم عبدك عيسى الحلو برحمتك الواسعة واسكنه فسيح جناته آمين..

عيسى الحلو: قدوة الجدية 

ومَعْلَمُ الوفاء للأدب والإنسان

آن الصافي – ابوظبي

• في الذكرى الرابعة لرحيل الأستاذ الكاتب والصحفي عيسى الحلو، لا أكتب عنه وحسب، بل أكتب أيضًا عن ما زرعه في مساراتنا من معانٍ لا تذوي. كان عيسى الحلو أكثر من قلمٍ مبدع أو صحفي بارز؛ كان ضميرًا ثقافيًا يضيء لمن حوله الطريق، ويزرع الثقة في الأجيال التي كانت تتحسس خطاها الأولى في فضاء الأدب والكتابة.

لست أبالغ حين أقول إنه كان من الذين شرفوني بدعمهم منذ أول إصدار، حين لم أكن سوى كاتبة ناشئة تحاول أن تعبر عن شغفها بالكلمة وسط كثير من التحديات. ذلك النبل الإنساني الذي تميز به جعله يفتح صدره ووقته للنصح والمتابعة والتشجيع، لا ليصنع حوله هالة بقدر ما كان حريصًا على أن ينمو الوعي ويترسخ الإبداع ويتصل الأفق بين الأجيال.

كان عيسى الحلو قدوة في الجدية والمثابرة. لم تكن الكتابة عنده مجرد مهنة، بل كانت التزامًا عميقًا تجاه القارئ واللغة والوطن. وعلى صفحات الصحف والمنابر الثقافية، ظل مدرسةً في الأدب والثقافة والأخلاق. مدرسة لا تدرّس عبر الدروس النظرية، بل تدرّس بالسلوك والقدوة والمواقف.

لم يبخل يومًا بأن يبرز الأسماء الجادة في مساراتها الأدبية والإعلامية والصحفية. ظل حريصًا على أن يمد يده لكل موهبة صادقة، وأن يحتفي بما تستحقه من تقدير، دون حسابات صغيرة أو انحيازات ظرفية. كان يرى أن الكتابة مسؤولية جماعية، وأن نجاح أي صوت حقيقي هو انتصار للجميع.

في زمن تتغير فيه المعايير وتختلط فيه القيم، يبقى عيسى الحلو رمزًا أصيلًا للثقافة التي تتعالى على الزيف وتحتفي بالإبداع لذاته. وتبقى سيرته شاهدًا على أن الأدب الحقيقي لا ينحصر في الكتب المنشورة، بل يُكتب أيضًا في القلوب التي تظل مدينةً لصاحب الكلمة النبيلة.

في ذكراه، أستعيد الامتنان، وأجدد عهد الوفاء لقيمه التي ستظل دليلًا لكل من آمن بأن الثقافة رسالة، وأن الكتابة أفقٌ للحرية وكرامة الإنسان.

(في حضرة «الحلو» الغائب الحاضر)

ذاكرة الرواية، ووجه المعلم ..

سارة عبد المنعم – القاهرة 

• لا أظن أن هناك أصعب من الكتابة في، وعن رجلٍ هو نفسه الكتابة. ترددتُ كثيراً، وظللتُ، كعادتي،  أكتبُ سطراً وأمحو ورقةً، فالموتُ أسوأ اختبار يعيشه البشر، والكتابة عن راحلٍ مقيمٍ تجربةٌ مُرَّة، وأنا لا أملك عتاد اللغة إن كان الحرف هنا عن سيد الكلمة والمواقف.

التقيتُ به عبر الحرف، ورفيقه الأستاذ الشاعر محمد نجيب محمد علي. كان مجرَّد الاسم (عيسى الحلو) يبعثُ فيِّ شعوراً بالخِشية والمَهَابة.

أذكرُ أوَّلَ مرةٍ التقينا، كان ذلك في مكتبه، وبمجرد رؤيته، ظننتُ أن ضحكاتي الشقيَّة لا مكان لها في حضرة هذا الوقار. وحين صارت حروفي تحت ناظريه، وددتُ الفرار!

لكنني لعنتُ نفسي بعد قليل من مؤانسةٍ ولطفٍ، على أنني لم ألتقِ به قبل الآن. وأيُّ حظٍّ شؤمٍ ظلَّت بلادي تقتنيه، أن يكون فيها كاتبٌ ومثقفٌ جمع ضروب الإبداع فيه، ولم يصرخ «انظروا لي، فأنا العظيم»، كما يفعل من يملك القليل ممَّا كان يمتلكه.

أدركتُ حينها يقيناً أن الأسماءَ تأخذُ وتُعطي لصاحبِها من معناها، الكثير؛ فقد كان «حُلواً» بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وكنتُ الأوفر حظَّاً بالقرب الذي جعل من دياره العامرة وأسرته اللطيفة، ملاذاً احتمي فيه من زوبعةِ حروفِ روايةٍ كانت تُطارد راحتي ومنامي.

كان سخياً في كل شيء. متواضعاً، ذكياً، فطِناً، شيخاً وطفلاً.

وكان أول امتحان لي في مشوار الكتابة، أن أقطع المسافة بين بيتي وبيته، وبيننا مدن، وكُبري النيل، وطريقٌ أطول من أن يحتمل شمس النهار.

وقتها، كانت روايتي تسهر بي الليل، وتكسر عن جفنيَّ النُّعاس لتهمس لي بموعدِ لقاءٍ أستاذي الحلو غداً، ليطَّلع عليها.

فأحاول جاهدةً أن أكتبها في أبهى ما يكون، وما أستطيع، وأحمل إليه ورق حروفي الأبيض، فيقابلني بقلبه الأكثر نصاعة، وابتسامة عريضة،

وحفيده «أكرم» ابن الأعوام القليلة، كان دائم الجلوس بيننا، فيُفسح حضوره لسجيَّتي.

دهشتُ من ذلك العطف والحنوِّ من رجلِ الصمت المهيب.

كانت ضحكاته كبراءة طفل، وكنتُ هناك على سجيَّتي تماماً. تبثنا نظراته السكينة، وتُلغى توتر التلميذة الواجفة أمامه.

مشواري الطويل إلى داره كان أول امتحانٍ منه، ليرى مدى عزيمتي وعزمي، هكذا أخبر صديقه وأستاذي محمد نجيب. تعجَّبتُ، وربما غضبتُ سرَّاً، فأنا مُنهكة من أفكارٍ وشخوصٍ وروايةٍ وددتُ كثيراً تمزيقها! كنتُ أقاسي من وجعِ مخاضها، تعبتُ، ووددتُ إجهاض فكرتها.

وفي كل مرَّة أذهب إليه، كان يُعيدُني   

إلى بيتي من أجل مراجعة أخرى، 

     ليست أخيرة!

        لم يكن يقرأها، بل كان في كل 

          مرة يسألني عن أسماء 

              شخوصها كأنّه يعرفهم:

«ماذا حدث لهم؟»

وقليلاً ما يطلب مني قراءة سطر أو 

 سطرين،

لكنه أعطى تلك الرواية ما لم يعطه لغيري.

حدثني يوماً أن هذا العمر سيرهِقُني، وغداً، حين أكبر سناً وتجارب، سأُشفَى من نوباتِ القلقِ والتقمُّصِ والبكاءِ التي شكوتها له.

أخبرني أني في عمرٍ ما، سأكتب من خارج النص،

كحاملة ريموت، أُحرِّك الأشخاص والأفكار والمواضيع دون أن أُؤذي نفسي، أو قلبي، أو مزاجي.

أذكر أنه كان يضحك من مشاكستي وسؤالي : «كيف تكون الكتابة دون أرق؟»

فكشف ضَحِكهُ عن وجهٍ لا أنساه، وهمس: «هذا هو العمر!»

فمشاعر شباب العنفوان هي التي تكتبين بها الآن،

وغداً، حين تتعلمين اللعبة، ستكتبين بسلطتكِ عليهم، لا بسلطتهم على انفعالاتِك ومِزاجِك.

«ستكونين الحاكمة، أيتها الملكة»، قالها ضاحكاً.

ثم يعود بي إلى الرواية،

يسألني عن الملكة وحبيبها. كان يسأل عنهم بدرايةٍ تامة : عن «كمال» الوغد، والملكة الشقيَّة، وصبي الأفيون، كأنه شريك أسرار حكايتي.

ومن فمه خرج اسم الرواية النهائي.

كان اسمها «الملكة» فقط،

مكتوباً على غلاف أوراقها. وفجأة سألني عن صبيِّها. قرأتُ له عنه.

سألني : «كيف ليس معها؟»

ومن فكه خرج الاسم : «الملكة وصبي الأفيون».

كنتُ أجلس قربه وأقصُّ عليه ما حدث، يسمعني كأن لا صوتَ في الدنيا سواي، ينصِتُ سارحاً كأنه يراهم أمامه، وحين أسكت، يبتسم …

فيتركني في قلقٍ آخر.

ظل يقول لي : «الكتابة لا قيود لها، ولا عُرف، ولا خوف.»

كان القلق رفيقي، حد أني كنت أسأل دائماً أستاذي نجيب عن تلك الأوراق التي أحملها : «هل يظن أنها جديرة بإعجاب أستاذنا الحلو؟»

فيبتسم ويهمهم: «الحُكم بين يقينك وشكِّك، هو أستاذنا الحلو.»

مرت الشهور، ولم أكن أعلم أن تلك كانت أجمل، وأندر متعة نلتها في طريق الكتابة. لم يكن في خاطري أن اكتمال الرواية وفصولها وقلقها، سرقوا مني متعةً أجمل منها :

مشوار بيت أستاذي الحلو، ومائدة الحب التي جمعتني ببناتِه، وحفيدِه، وقصصِه القليلة، وصمتِه الكثير، وضحكتِه التي كنت أُقارنها بوجهه الوقور فأتعجَّب.

ذلك أجمل ما نلت.

ولم ينقطع عن الوصلِ،

بل كان أعظم تكريم نلته في حياتي أن تلك الرواية خرجت للطبع من بيتِ حبٍ وكرم، وأنني نلتُ ما أفتخر به، حين كتب عنها أستاذي العزيز عيسى الحلو.

الرجلُ العاشقُ للطبيعة، المتمثلة في أشجار وزهور بيته. الرجلُ المتفاني، الذي قضى عمره وحيداً يرعى أبناءَه بعد رحيلِ أمهم. الرجلُ المثقف قلباً وفكراً وخصالاً، لم يكن بالقويِّ الساخطِ المتزمِّت،

رأيتُ ذلك في أبسطِ الأشياء بداره. كان بكاملِ اللُّطفِ، والمودةِ، والتسامحِ، والرحمة.

عفيفاً، نقياً، يحملُ قلبَه العليل ليقطع الطرق بقدميه، منفقاً الحب والعطاء، والدولة لا تعرف عن علاجه وراحته ورفاهيته شيئاً.

رحل الإنسان المَقَام، تاركاً أثره الجميل : حرفاً، وروحاً، وذكرى.

ورحلتُ أنا إلى الغربة، ورحل هو عن ذات البلاد إلى الأبد. بلادٌ جَهِلتْ قيمة المبدع وتفانيه.

وتذكرت، في حديث الرواية، أن بلادي تكتفي بتسميةِ شارعٍ، أو تعليق إطار صورة عريضة على الجدران، وفاءً منها وعِرفاناً إذا فقدت قامة…

يا لها من بلاد ..!

بلاد حظٍّ تلك التي أنجبت واحتوت قامة رجلٍ أنا أقصر قامة من الحديث عن إبداعِه، وعطاءِه، وكتاباتِه، ومواقفِه.

عيسى الحلو، الإنسان النبيل، الحلو في كل شيء، تواضعاً ورحابةً.

رحمةُ الله تُحف روحَه،

وجزاه اللطيف عني كل خير.

شهادة في حق المبدع عيسي الحلو

أحمد الفضل أحمد 

   • عيسي الحلو – كاتب قصصي وروائي معروف ومُنتشر حتى بين عامة الناس في الإسهام الثقافي السوداني … وأوّل عهدنا بالدخول لعوالمه عبر مجموعته القصصية ( ريش الببغاء ) المنشورة في ستينات القرن الماضي ببيروت … وتوالت كتاباته عبر الصحافة الثقافية وتشكل بذلك حضوراً ملحوظاً في المشهد الثقافي السوداني بمثابرته وإخلاصه ولم ينقطع عن الكتابة الإبداعية والنقدية … وهو حاضر ومعاصر بقوة …

– ولعيسى – عوالمه المتفردة المختلفة عن الآخرين وعلى طريقته … ولاحقاً تشكلت تلك الكتابات من تحصيله وانفتاحه على المشهد الإنساني رصداً للتحولات عن طبقة البرجوازية الصغيرة وهوامشها المترهلة بكل كوابيسها وتعقيداتها الراهنة … المركبة … وقد تبدو تلك الشخصيات مترهلة ومعاقة ذهنياً ونفسياً … وبمهارة وشاعرية يخلق عيسي أجواءً أسطورية عن تلك الشخصيات تضميناً لنظرة فلسفية وجودية في إطار جمالي … متنزلاً من تركيب وعيه حواراً مع تلك الشخوص استجلاء وكشفاً في سراديب تأزماتها وتعقيداتها … وأحلامها ومن مشاهد السينما التي يعشقها ( عيسي) يبني تقنية رواياته وقصصه …

    ويتفوق في تخليق تلك العوالم ذاتياً وهو جزء منها يدرك واقعها ويتماهى معه فهو منها وإليها … وحين تقرأ ( عيسي ) تجد أن إبداعه يتجاوز المحلي وتستضيفه المخيلة العربية الحديثة في أقطارها شراكة مع محمولاتها الثقافية الراهنة المتحدة … ويكون – عيسي – مُتوزعاً بين بيروت والقاهرة وبلاد المغرب الكبير …

– وعيسي – جدير بأن يكون بين تلك النُخبة مساهماً وفاعلاً يعبر بسهولة مطلقة وتصح قراءته أيضاً هناك !!

   ينظر آخرون له بأنه بعيد عن صراع دراما وقائع ثقافات الريف والتي هي متحولة وتلامس مجتمعات المدائن الحديثة …

   ويُصنِف ( عيسي) بعض الكتابات ويطلق عليها الكتابة الريفية من مصدر أنها كتبت من إقطاعيات خارج نطاق المدينة الحديثة … ونقول أن الكتابة هي كتابة في الرواية أو القصة بحسب شروطها المعلومة …

فهل في كتابات ( عيسي ) هروب أم عدم معايشة ومثاقفه مع تلك الإقطاعيات المتعددة في الأطراف والوسط والمدينة في السودان مهما عُظمت فإنها تُعد مدينة ( ريفية ) كبيرة تحمل في جوفها كل التشكيلات والتعدُد … ويري بعض الآخرين أن التحليق والتهويم بعيداً يصنع بعض إشكاليات التقسيم المدرسي بين ما هو ريفي إقطاعي وبين ما هو مديني … والرواية هي رواية بكل المقاييس … وفي النهاية أنها تُبث وعياً ومتعة تلك الرواية المُتقنة الصنع في زمن الحداثة الماثلة على مستوي الكون …

ونحتاج لوعي جمالي كافي للقبول بكل الإبداعات المُساهِمة في رصدها لثقافات الأقاليم السودانية … في التاريخ والتراث والكتابات الجديدة المحتوية للراهن والسالف … الغائب والحاضر ما بين الحلم واليقظة … والثابت والمتحول .

( وعيسي الحلو ) مُغرم جداً بالتجريب في أساليب الكتابة على النهج الغربي عند ( ألن روب غرييه وناتالي سارووت ) وأضرابهما …

التاريخ الذاتي في مسيرة عيسي مكنون بعيداً في الذاكرة وجاء من – قُلِي – في النيل الأبيض إلى حاضرة بحر أبيض في كوستي وزمالة عبد الله شابو وخالد المبارك والسماني عبد الله يعقوب والأستاذ الشاعر شاكر مرسال وكانت المدرسة الوسطي كعتبة وسيطة في سُلم التعليم القديم قنطرة عبور للثانويات على أهميتها في تربية النشء حيث أنه كانت للتعليم غايات وأهداف مرصودة تتحقق في بناء سلم المعرفة والتكوين .

ذهب ( معاوية نور ) إلى بيروت في استكمال دراساته وآخرون إلى مصر … أبناء بعض زعماء العشائر والوجهاء من كبار القوم وكانت محطة كلية – فيكتوريا الجامعية – بالإسكندرية وأخرجت لفيفاً من المعروفين (الشريف حسين الهندي ومأمون بحيرى الذي أصبح لنبوغه مُعيداً في الكلية ودرس على يديه المخرج الطليعي فيما بعد ( يوسف شاهين ) قال ذلك بنفسه …

وأرسل الأمير ( ود حلو ) ابنه –عيسي- فدرس في مدرسة حلوان الثانوية … والعودة للسودان فما هي أسباب انقطاع مواصلة المسيرة الجامعية هناك …. وكثير من شخصيات السودان اللامعة استكملت تكوينها في مصر … ونجحت جمعية ( اللواء الأبيض ) في تهريب ( توفيق أحمد البكري ) وآخرين حيث يحتضنهم هناك الأمير – عمر طوسون- حفيد محمد على باشا ومن كبار السودانيين – على البرير – وعيسي لا يلمس خلفيات ذلك التاريخ وربطه مع حلقات التاريخ السياسي والإجتماعي المُمدد في وادي النيل … وكان أسلافه ملوكاً على النيل فأين ذلك من وعي قوة الأشياء … ؟ !

– المدرسة الوسطى – مرحلة تكوينية وانتقالية لها حلاوتها ونماذجها من الأساتذة الأجلاء … بعضهم كان يمتهن المهنة على مدي طويل … وآخرون يعبرون منها في مدي قصير إلى دراسات واتجاهات أخرى … وما تزال صورة هؤلاء الأساتذة في الذاكرة بقوة حضورهم واستعداداتهم المعرفية العالية … وفلسفة التعليم وقتها كانت على دراية منهجية للوصول للغايات المرجوة في الإعداد للنهايات المحسوبة والتي غايتها المعرفة والاحاطة في العمل الديواني والخدمي والتطبيقي وحتى الوعي السياسي والاجتماعي والتاريخي…

وعيسي التحق بمهنة التعليم في (المرحلة الوسطى) ومكث بها حيناً من الدهر … وأن تنتقل من إقليم لآخر في ربوع السودان كان ميسوراً ومُتاحاً … وحدث في عقد السبعينات أن تم نقل (عيسي) للمناطق النائية في الشمال النيلي وبحكم تكوينه واستعداداته فلم يكن مؤهلاً لخوض تلك التجارب الشاقة بعيداً عن حنين الأشياء المألوفة الثابتة والمستقرة مع العائلة الصغيرة في العباسية وبؤرة الإشعاع الثقافي وجاذبيته … ومشروع الفنان والأديب ليس متاحاً عند كل الناس … وقدر أن تكون فناناً أديباً مرصود في القلة القليلة … وهذا قدر وطريق آخر مشى على تضاريسه ونتوءاته بالسهر والكد والمواظبة … وكانت المفاصلة ما بين التعليم والإبداع  والهم الثقافي عموماً …

– ولعيسي- رفقة أدبية طويلة مع بعض أنداده ومعاصريه وكان قبل ذلك (عيسي) قد تأهل مهنياً أثناء الخدمة في معهد ( بخت الرضا للتربية ) … تلك البؤرة الإشعاعية ذات التأثير على مدي المنطقة العربية والأفريقية وكان انطفاء ذلك السراج بقصديه منهجية من تدبير الفكر .. الغازي الهادم …

وجد (عيسي) من يعينه وقتها والتحق ممتهناً للعمل الثقافي …

وكانت أول بدايات النشر لعيسي هي قصة قصيرة في صحيفة (النيل) لسان حال ( الأنصار وحزب الأمة ) كان ذلك في العام 1957م … وعلى الجناح الآخر كان ( صوت السودان ) ثم ( الجماهير ) لسان حال الختمية وحزب الشعب الديمقراطي وهذه هُوية وتكوين للسودان الماثل وأيا كان الرأي الآخر المُضاد فلا يمكنك أن تتلاشي وتستعير لك هويات أخري …

   عمل عيسي في جريدة ( الأيام ) الملحق الثقافي وأصبح كاتباً متفرغاً في العام 1976م … وامتد التحرير الثقافي لسنوات كإصدارة راتبه رصينة وشاملة في محاور الإبداعات الأدبية والفنية انفتاحاً على الثقافة السودانية والعربية والكونية … وأتاح ملحق الأيام الثقافي فرصاً واسعة لإنتاج كبار الأدباء والمبدعين والجماعات الأدبية والشباب الواعد في مجالات القصة والشعر والدراسات … الخ أصبح ملحق الأيام الثقافي نموذجاً يحتذى لبقية الصحائف … كان الملحق قد سدَّ فراغاً عريضاً مع قلة الدوريات الثقافية والكتاب … وازدهرت على صفحاته أقلام مجيدة …

   يُحسب – لعيسي – هذه الريادة … وفي عقد التسعينات أشرف عيسي الحلو على مجلة الخرطوم مع مجذوب عيدروس ومعاوية البلال … وانعدل بعد ذلك ميزانها المائل وكانت إصدارة جامعة يُفخر بها على ساحة الثقافة العربية الأقريقية … وضع عيسي بصماته في لوحة الثقافة السودانية .

   ترك(عيسي) مهنة التعليم ورموزها في المرحلة الوسطى من الذين سبقوه ومن جيله ومن جاء بعده فكان هناك ( أمين زكي وبرعي أحمد البشير وأبو بكر خالد وعثمان الحوري ومصطفى سيد أحمد … ) فهل خسر التعليم أم ربحت الثقافة ؟ ….

    وتجد في مكتب عيسي ( محمد عبد الحي وعلى المك وأحمد عبد العال ومحمود مدني … وآخرين ) وحصيلته من الإصدارات موقفة في النشر وخاصة رواياته … ومعظمها نُشِر ما بين صحيفتي الأيام والصحافة ثم من بعد جريدة الرأي العام .

ونذكر منها : تلك عناوين باهرة ، السماء والبرتقالة ، حمي الفوضى والتماسك ، مداخل العصافير للحدائق ، صباح الخير أيها الوجه اللامرئي الجميل ، الجنة بأعلى التل ، جنيفييف والعصفورة ، عجوز فوق الأرجوحة و الورد وكوابيس الليل .

ومع الإبداع الخالص في التجريب والحداثة يُعد عيسي فناناً شاملاً في اهتماماته وتطبيقاته النظرية وقد نالت الفلسفة الوجودية كنظرية لها صداها في فترة الستينات وتعلق بها كثيرون … كانت بعض اتهاماته …

وهل يُحْسَب ( عيسي ) عليها في فترة من الفترات …؟ والشاهد أن الأستاذ المرحوم ( بشير الطيب ) يُعد من روادها على المستوي الإبداعي الكتابي وخاصة في تلك الفترة … كان يكتب عموداً ثابتاً ( أقول لكم ) في جريدة –الزمان- لصاحبها عبد العزيز حسن … ثم في جرائد أخري لاحقة … ومجلات …

   الفن والحداثة وكانت ظاهرة المُغني ( إبراهيم عوض ) مطلع الخمسينات هذا فنان أثير لدي عيسي الحلو ولم يكتب عن تلك الصلات المُمتدة معه والملحن والشاعر عبد الرحمن الريح … وكانا يستحقان توثيقاً في ريادتهما الحداثوية عصرئذٍ كما يقول على المك …

   وأن تكون تلك الكتابة على طريقتها لتجمع ما بين التاريخي والاجتماعي ومدارج الموسيقي في فتوحاتها الجديدة كان يملك ذلك بطريقة من الطرائق … أتصور ذلك . !! .

  أكتب من حين لآخر بعض الكتابات والمقالات وكان ذلك بإلحاح من المبدع (عيسي) … في ملحقه أو مواضع أخري … فأصبحت تلك عادة يحُثني عليها أيضاً مجذوب عيدروس … تحية لكل الجمِلين الحاضِرين والغائبين …

ولمركز (عبد الكريم ميرغني ) التحية والتقدير… والرحمة لأحمد الطيب عبد المكرم  … وللأخ وليد تحية وللصاوي ولكل القائمين والقاعدين … وروح الطيب صالح الوادعة عَبقُها بين الأمكنة في أمدرمان والخرطوم … ونشتهِي أن تَعُم ذكراه في احتفاليات جميع المدائن … تأخذ كل مدينة من بنصيب من اهتماماتها الفنية والثقافية . وما أجدرها وأكثرها ..

مرثية : 

 بورتريه لسيد عيسى الحلو 

محجوب بشير كبلو – الامارات

• بنظرة قبطان مغسولة بالتحديق في المياه العالية ،

وشارب فضي قبل الاوان ،

والغليون المتخيل (فهو لا يدخن ) ،

كان وجهه اطارا لابتسامة كبيرة.

كان صوته يسمع مبتلا 

كارتطام دلاء بجدران آبار في اعماقه ،

وان كان لكلماته رائحة الاحتراق.

في غرفته

كان الضوء ابطأ من الوقت ، 

والكتب تنظر اليه بذعر

خشية ان يعيد قلقه كتابتها.

الكتابة عنده ليست سلوكا،

بل شجرة تنمو في السهو،

وقلمه يتحرك في بياض الورقة كما لو كان ممتثلا  لفاكس شيطاني

تهلك الكتابة، إذا نجت القواميس،

او كما قال.

 

شارك الذكرى

2 thoughts on “فى الذكرى الرابعة للرحيل: ورود حمراء من أجل عيسى الحلو ١٩٣٧ – ٢٠٢١ – (١)

  1. الملف خرج بثوب جمالي، زاهي وقشيب تحلو معه ذكري الحلو الإنسان الفنان…. عمل كبير بحجم الرجل… رحمة الله عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *