د. خالد مصطفى إسماعيل
كاتب صحفي
• (فورة البرمة للجعان قاسية) هذا مثل سوداني، ويعني (أن الشخص الجعان يصعب عليه تحمل انتظار حلة الأكل حتى تنضج، فيكون في حالة قلق وانتظار وترقب، يتمنى لو تنضج بصورة أسرع حتى يأكل). والبرمة هي الإناء الذي يطبخ فيه الأكل.
فالجوع أمر قاسٍ، ولا يعرف ألم الجوع إلا من تذوقه، والإحساس بالجوع إحساس سيئ جداً،
وقد فرض الله الصوم ليحس الأغنياء بمعاناة الفقراء وجوعهم، وهذه واحدة من حكم الصوم.
فإذا كنَّا نحن في رمضان نصوم النهار ونفطر الليل كله ابتداءً من إفطار رمضان عند المغرب، مروراً بوجبة العشاء، ثم وجبة السحور قبيل صلاة الصبح، ومع ذلك يصعب علينا الصوم من الصبح حتى المغرب (١٢ ساعة تقريباً)، فنجوع بالنهار ونتعب. فما بالك بأناس يصومون الليل والنهار، ولا يعرفون حتى متى يأكلون، أو متى يجدون الأكل، فالبطون فارغة، والجيوب فارغة، والأسواق فارغة أيضاً.
أناس صحوا ذات يوم من نومهم، فوجدوا أنهم قد فرض عليهم حصار، من بشر لا يرحمون، وبسبب صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل.
حوصروا حتى نفد مخزونهم من المؤن الغذائية، ونفدت أسواقهم من المواد، ونفدت جيوبهم من الأموال.
صمدوا وصبروا في كبرياء، يربطون بطونهم من الجوع، ويتألمون في صمت.
توجهوا إلى الطبيعة علها تنجدهم، ويجدون فيها الحل، فلم يجدوا فيها غير أوراق النباتات، فأصبح الإنسان والحيوان يتنافسون في أكل أوراق الأشجار ليحافظوا على حياتهم.
كل ذلك والذين يحاصرونهم لا يرأفون لحال أطفال جوعى ضلوعهم بارزة، وعظامهم لا لحم يكسوها، يموتون ببطء. أو يحنون على كبار السن الذين يئنون في صمت من الجوع، ويموتون بحسرة، فألم الخذلان كان أشد عليهم من ألم الجوع، لأن الذين يحاصرونهم من أصلابهم وأرحامهم وجيرانهم، فلم يستطيعوا أن يتحملوا كل ذلك فانسحبوا من الحياة بهدوء، تاركين لنا ألماً لن تمحوه السنوات، ولن يعوضنا عنه أي شيء، حتى لو جاء السياسيون بألف ديمقراطية، وألف دستور، وآلاف الدولارات للتنمية.
وفوق كل ذلك، وحتى يصبح المشهد أكثر تراجيدية، يتعرض هؤلاء الناس للقذف بالأسلحة الثقيلة على الدوام، يا الله! ما هذا الألم، وما هذه القسوة، جوع، وعطش، وخوف، ونار، من أين لهذه القلوب الرقيقة، وهذه الأجساد النحيلة أن تتحمل كل هذا؟ ولماذا كل هذا من الأساس؟
لا يوجد مبرر لما يحدث من جوع وموت وخراب، مهما تشدقنا، ومهما قلنا، وتفاصحنا، وتجادلنا أمام القنوات والكاميرات والوسائط، فهذا الذي يحدث هو سقوط أخلاقي منقطع النظير، وعمل لا إنساني ذميم، نقطة سطر جديد.
فلا يمكن بأي حال من الأحوال ربط الحصار والجوع بتحقيق قضية سياسية، فالقضايا السياسية قد تمتد سنوات طويلة حتى يتم الوصول فيها إلى حلول، والجوع لا يمكن تحمله ولو يوماً واحداً فقط.
إذن يبقى حصار كادقلي والدلنج والفاشر، وغيرها من المدن والأرياف المحاصرة عاراً في جبين المُحَاصِرين. عار ستلاحقهم لعناته إلى يوم الدين.
والأصعب من ذلك كله إذا أصابتك طلقة من تلك الطلق الطائشة، أو الموجهة إليك مباشرة، أو حتى أصابتك ملاريا بسبب البعوض، فإلى أين ستذهب؟ فالطلقة قد أصابت المستشفى من قبلك ودمرتها، والدواء كما الغذاء لا يمكن الوصول إليه حالياً، إذن ستموت بجروحك أو بملاريتك، تسلم الروح إلى بارئها، وتنتقل إلى الضفة الأخرى من نهر الحياة، قانعاً من خير في الدنيا، وصحي الموت سلام.
ولكن يبقى في آخر هذه العتمة ضوء، فالمحسنون الذين يحسون بإخوانهم في الإنسانية وفي الوطن وفي الدين ويمدونهم، ويجمعون المبالغ مهما قلت أو كثرت لعمل التكايا، وإطعام الجوعى، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أولئك هم الفائزون.
نتمنى أن تتواصل جهود الخيرين، والمحسنين والمنظمات الإنسانية، والمبادرات والمبادرين، لأنها أصبحت الأمل الوحيد في إنقاذ حياة الناس هناك، ومن هنا ندعو كل من له قلب للمساهمة في إنقاذ حياة الناس هناك. فالوضع لا يحتمل، وتذكروا المثل السوداني البليغ (فورة البرمة للجعان قاسية). والسلام.
شارك المقال
