أ. د. فيصل محمد فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
• قصة «فنان الجوع» (A Hunger Artist) هي واحدة من أشهر أعمال الكاتب التشيكي فرانز كافكا (Franz Kafka)، وقد نُشرت عام 1922 ضمن مجموعة قصص قصيرة تحمل الاسم نفسه. تُعتبر القصة من أكثر نصوص كافكا رمزيةً وغموضًا، وتعكس أسلوبه الوجودي الذي يتناول الاغتراب، العبث، والمعاناة الإنسانية.
تحكي القصة عن رجلٍ يمتهن الصوم كفنٍّ، يعرض نفسه في قفص أمام الجمهور أيامًا طويلة دون أن يأكل شيئًا. يتوافد الناس لمشاهدته بانبهار، لكنه مع مرور الوقت يفقد جمهوره، ويُترك وحيدًا في قفصه حتى يموت جوعًا. وفي لحظاته الأخيرة يعترف بأنه لم يكن يجد طعامًا يعجبه، ثم يوضع في قفصه نمرٌ قوي يأكل بشهية ويملأ المكان بالحياة، في مشهدٍ يُلخّص التناقض بين الروح التي تذوب في البحث عن المعنى، والجسد الذي يعيش بالغريزة وحدها.
ورغم بساطة القصة، إلا أنها من أكثر النصوص قدرةً على تعرية النفس البشرية أمام أسئلة الوجود القاسية: لماذا نحيا؟ ولماذا نتألم؟ وما جدوى الجمال في عالمٍ لا يعترف إلا بالقوة؟ كافكا لا يقدّم إجابات، بل يضع الإنسان أمام مرآة ذاته، تمامًا كما يقف فنان الجوع أمام جمهوره دون أقنعة. في زمنٍ تسيطر عليه المادة وتبهت فيه الروح، تصبح القصة تذكيرًا بأن الفنّ – كالصوم – فعل مقاومة ضد التفاهة وضد فقدان المعنى.
وحين نقرأ هذه القصة اليوم في ظلّ ما يعيشه السودان من حربٍ طاحنةٍ وتمزقٍ إنسانيٍ وسياسيٍ، نجد أنها تتجاوز الأدب لتصبح مرثيةً للإنسان المعاصر الذي يعيش في قفصه الخاص، بين جوعٍ إلى الحرية، وظمأٍ إلى الكرامة، وعزلةٍ تبتلع الصوت والفكر. ففنان الجوع ليس مجرد شخصية في قصة أوروبية، بل هو صورة لكل من يصرّ على التمسك بقيمه في عالمٍ يصفّق للغريزة وينسى المعنى.
العبث الكافكوي وعبث الحرب السودانية
في أدب كافكا، لا شيء يسير وفق المنطق البشري. البيروقراطية تتحول إلى وحشٍ مجهول، والإنسان يُحاكم دون أن يعرف جريمته، كما في روايته المحاكمة. هذا العبث ليس مجرد موضوع أدبي، بل رؤية فلسفية للعالم الحديث الذي فقد بوصلته الأخلاقية والإنسانية.
وحين ننظر إلى ما يحدث في السودان منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، نرى مشهدًا كافكويًا بكل تفاصيله: أحياءٌ تُقصف بلا سبب، مدنٌ تُهدم ثم تُترك خاوية، مؤسساتٌ تختفي، وسلطةٌ بلا وجهٍ واضح. في عالم كافكا، يواجه الإنسان آلةً غامضة لا ترحم؛ وفي السودان، يواجه المواطن آلة الحرب التي لا تعرف هدفًا سوى استمرار نفسها.
كافكا كان يكتب عن اللاجدوى التي يشعر بها الإنسان حين يُسلب منه المعنى، والسوداني اليوم يعيش هذه اللاجدوى بكل قسوتها. فالحرب، مثل البيروقراطية الكافكوية، لا تبرّر نفسها، ولا تُفسَّر، لكنها تبتلع الأرواح ببطءٍ مَرَضيّ.
الاغتراب: من الفرد الكافكوي إلى المواطن السوداني
في أعمال كافكا، يعيش الفرد حالة من الاغتراب الوجودي العميق؛ إنه غريب حتى عن ذاته. فـ»غريغور سامسا» في قصة التحول يستيقظ ذات صباح ليجد نفسه قد أصبح حشرة، عاجزًا عن التواصل مع أسرته أو العالم. وفي فنان الجوع، نجد اغترابًا من نوع آخر: فالفنان يعيش وسط الناس لكن لا أحد يفهمه أو يُقدّره.
يُشاهدونه بإعجابٍ مؤقت، ثم يُعرضون عنه حين يملّون، تاركينه يذبل في صمته حتى الموت.
وهذا الاغتراب هو ذاته ما يعيشه المواطن السوداني اليوم: يُقاتل ليعيش، ليحافظ على بيته، ليحمي أسرته، لكنه يشعر أنه غير مرئي – لا في أعين العالم، ولا حتى في ذاكرة وطنٍ أنهكته الانقسامات. إنه، مثل فنان الجوع، يعيش وسط الضجيج لكنه يختنق بالعزلة. العالم يشاهد صوره على الشاشات، يصفّق أحيانًا، يتألم لحظة، ثم يمضي إلى قفصٍ آخر – إلى حربٍ جديدة، أو مأساةٍ أخرى.
السلطة واللامعنى
كافكا يرى أن السلطة ليست بالضرورة شخصًا أو نظامًا محددًا؛ إنها بنية غير مرئية، غامضة، قادرة على سحق الإنسان دون مبرر. في رواية القلعة، يحاول البطل أن يصل إلى القلعة ليتحدث إلى أصحاب القرار، لكنه لا يُسمح له بالدخول أبدًا. إنها استعارة عن السلطة الباردة التي تحكم دون أن تُرى، وتعاقب دون أن تُفسّر.
وفي السودان اليوم، يعيش الناس مأساة مشابهة: سلطاتٌ متعددة لا تُرى وجوهها، قراراتٌ تُتخذ في الخفاء، وحروبٌ تُدار بغير منطق. كأن البلاد كلّها داخل آلة كافكوية عملاقة تكتب على أجساد الناس أحكامًا لا يفهمونها، كما في قصة في مستعمرة العقاب، حيث يُنقش الحكم على جسد السجين حتى يموت وهو لا يعرف ما الجريمة التي ارتكبها.
في هذا المشهد، العبث ليس في الحرب فقط، بل في تفسيرها أيضًا. كل طرف يدّعي البراءة، وكل ضحية تُترك دون عدالة، حتى يتحول الوطن كله إلى «قفصٍ كبير»، يعيش فيه الجميع فنانين جائعين، كلٌّ منهم ينتظر جمهورًا لن يأتي.
فنان الجوع كرمز للمثقف السوداني
يمكن قراءة فنان الجوع اليوم كرمزٍ للمثقف أو الباحث أو الطبيب أو المعلم السوداني، الذي ظلّ يُقدّم فنه وإيمانه وقيمه رغم الجوع والظروف القاسية. ذلك الفنان الذي يحاول أن يجعل من الصبر مهنة، ومن النبل موقفًا، لكنه يكتشف أن المجتمع نفسه قد فقد شهيته للمعنى.
في النهاية، يُستبدل فنان الجوع في القصة بنمرٍ مفترس، رمز القوة والغريزة، فتعود الجماهير لتصفّق بحماس. وهكذا تُستبدل في الواقع قيم الفكر والوعي بقيم العنف والغلبة، وتُستبدل الكلمة بالطلقة، والعقل بالولاء. إنها المأساة ذاتها – حين تُصفّق الجماهير للدماء أكثر مما تُصفّق للفكر.
الجوع السوداني: من الألم إلى الوعي
لكنّ الجوع في القصة ليس فقط عذابًا جسديًا؛ إنه بحث عن النقاء. وفِي هذا المعنى العميق، يمكن قراءة الجوع السوداني اليوم لا كجوعٍ للطعام، بل كجوعٍ للعدالة، للسلام، للكرامة، ولحياةٍ تُشبه الإنسان. من رحم هذا الجوع، يولد الوعي، تمامًا كما يولد الضوء من قلب الظلمة. فكافكا، رغم سوداويته، كان يؤمن أن الوعي هو الخلاص الوحيد في عالمٍ عبثي.
والوعي في السودان، وسط هذه الحرب، بدأ يتشكل في جيلٍ جديدٍ من الشباب، في مبادرات إنسانية ومشاريع فكرية تحاول بناء وطنٍ مختلف، بعيدًا عن تكرار القفص القديم.
قراءة سودانية لفلسفة كافكا
حين نقرأ كافكا بعين سودانية، نكتشف أن فلسفته ليست بعيدة عن واقعنا. الاغتراب، البيروقراطية، الصمت، العبث – كلها وجوهٌ نعرفها جيدًا. لكن الفرق أن كافكا كتب عن إنسانٍ فقد صوته في وجه سلطةٍ غامضة، أما في السودان، فالمأساة تتجاوز الفرد لتصبح صراع أمةٍ بأكملها مع العبث.
من هنا، يمكن أن نعيد تعريف «فنان الجوع» في سياقنا المحلي: إنه ليس مجرد رمزٍ للفنان المعذّب، بل رمزٌ للإنسان السوداني الذي ما زال يقاوم الجوع بالكرامة، ويحوّل الصبر إلى فعلٍ، والمعاناة إلى وعي. فحين يقول فنان كافكا قبل موته:
«لأنني لم أجد طعامًا يعجبني، لذلك كنت مضطرًا إلى الجوع»،
يمكننا أن نسمع صدى العبارة في صوت السوداني الذي يرفض الفساد، ويرفض الانحياز، ويرفض أن يأكل من موائد الظلم، حتى لو كان الثمن هو الجوع أو الموت.
من فنان الجوع إلى فنان الحياة
ربما يُقدّر لكافكا أنه كتب عن الإنسان الذي يختنق في القفص، لكن في السودان، هناك دائمًا من يفتح ثغرةً في القضبان. فمن وسط الدمار، يخرج الفنانون والشعراء والأطباء والمعلمون والنساء والشباب ليقولوا للعالم: نحن لا نجوع عبثًا، نحن نجوع كي نحيا بكرامة. وهذا هو التحول الأعمق في المعنى: من فنان الجوع إلى فنان الحياة، الذي يجعل من الألم طاقةً للخلق، ومن الفقد وقودًا للبناء.
في السودان اليوم، يولد الفن من تحت الركام، وتُكتب القصيدة على ضوء شمعة، وتُقام الحفلات في مخيمات النزوح كأنها إعلان تحدٍّ للخراب. فنان الحياة السوداني لا ينتظر تصفيق العالم، بل يخلق مجده من العدم، من ركام البيوت ومن صمت القبور. هو من يزرع شجرة في أرضٍ أُحرقت، ويرسم على الجدار المهدم ملامح وطنٍ قادم. إن فنّه فعل بقاءٍ وذاكرة، يُعيد عبره تعريف الإنسان ومعنى الوطن في زمنٍ فقد فيه العالم توازنه الأخلاقي.
إن فلسفة كافكا تُذكّرنا بأن الإنسان في مواجهة العبث ليس كائنًا ضعيفًا، بل كائن يبحث عن المعنى حتى في الرماد. فحين يختنق العالم بالصمت، يولد الفنّ كشكلٍ من أشكال المقاومة، وحين ينهار النظام الأخلاقي، يبقى الإبداع هو آخر مظاهر الكرامة.
«فنان الجوع» لا يموت عبثًا، بل يترك وصيةً للبشرية: ألا ترضى بالزيف، وأن تواصل البحث عن الحقيقة مهما كانت قاسية.
وفي السودان، تتكرر هذه الوصية كل يوم، في وجوه النازحين، في قلوب الأمهات، وفي أصوات الشباب الذين لا يزالون يحلمون بوطنٍ عادلٍ لا يُقصي أحدًا. إن قراءة كافكا في سياق الحرب السودانية ليست ترفًا فكريًا، بل هي استعادة لكرامة السؤال الإنساني وسط ضجيج السلاح.
فمن يدرك عبث الواقع هو وحده القادر على تجاوزه.
وكما كتب كافكا ذات مرة: «في معركة بينك وبين العالم، قف مع العالم».
لكن في السودان، الجملة تنقلب لتصبح:
في معركة بينك وبين القهر، قف مع الإنسان – دائمًا.
شارك المقال
