الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• في عالم يزداد ضجيجاً يوماً بعد يوم، حيث تكتنفنا الكلمات من كل ميمنة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والإعلانات، والمحادثات اليومية، يبدو أننا ننسى قوة الصمت. الصمت ليس مجرد غياب للكلام، بل هو لغة بحدِّ ذاتها، يمكن أن تكون أكثر تأثيراً وبلاغة من أي كلمة ننطق بها. فكيف يمكن للصمت أن يكون أداة قوية للتواصل؟
المؤكد أن الصمت لغة خفية قد تكون أقوى من الكلام، فهو لغة العلماء والعظماء. فالعالِم كلما ازداد علماً ازدان تواضعاً وصمتاً، لاكتشافه مدى محدودية تحصيله في بحور العلم. أما الطبول الجوفاء فصداحها أكثر صخباً.
والمثل الصيني العميق والشهير يقول: (الكلام فضة، ولكن الصمت ذهب). هذه العبارة تلخص جوهر قوة الصمت. في كثير من الأحيان، نلجأ إلى الكلام لنعبِّر عن أنفسنا، لكننا ننسى أن الصمت يمكن أن يعبِّر عن مشاعر لا تستطيع الكلمات وصفها. فالصمت يمكن أن يكون تعبيراً عن الاحترام، الحزن، الفرح، أو حتى الغضب.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت…).
والقاعدة الأصولية والقانونية تقول: لا ينسب إلى ساكتٍ قول، ولكن السكوت في معرض الحاجة بيان. وفي الجانب الآخر عبَّر الشاعر نزار قباني عن ذلك بقوله: إن الحروف تموت حين تقال.
وكل ذلك يشير بمنطوق مباشر أو غير مباشر إلى فضيلة الصمت.
وفي العلاقات الشخصية، عندما يصمت شخصٌ ما، بعد حديث طويل مُلئت به جنباته، قد يكون هذا الصمت بمثابة رسالة واضحة: (لقد سمعت ما يكفي، وأحتاج إلى وقت لأفكر). هذا النوع من الصمت يمكن أن يكون أكثر تأثيراً من أي رد فعل لفظي.
إن للصمت في الثقافات والتاريخ مكانة خاصة. ففي الثقافة اليابانية، يُعدُّ الصمت جزءاً أساسياً من التواصل، حيث يُنظر إليه على أنه تعبير عن الاحترام والتأمل. وفي الثقافة العربية، يُقال: «إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب»، مما يعكس تقديراً كبيراً لقيمة الصمت. وهو يشابه إلى حدِّ التطابق المثل الصيني العتيق.
وتاريخياً استخدم العديد من القادة والعظماء الصمت كأداة استراتيجية. المهاتما غاندي، على سبيل المثال، كان يستخدم الصمت كجزء من فلسفته في المقاومة السلمية، حيث كان يرى أن الصمت يمكن أن يكون أقوى من أي خطاب.
أما في التواصل وخلال حياتنا اليومية، فيمكن للصمت أن يكون أداة فعّالة لتحسين التواصل.
ففي العمل وأثناء الاجتماعات، يمكن أن يكون الصمت وسيلة لتحفيز الآخرين على المشاركة، أو لإعطاء الوقت للتفكير قبل اتخاذ قرارات مهمة.
أما في العلاقات الشخصية، فعندما يصمت الشخص أثناء حديث شريكه، فإنه يعطي رسالة بأنه يستمع باهتمام، مما يعزز الثقة والتفاهم بين الطرفين.
وفي حل النزاعات، يكون الصمت هو الحل الأمثل لتجنّب تصعيد الخلافات، حيث يعطي الفرصة للطرفين لتهدئة أعصابهما وإعادة التفكير.
أما بالنسبة لفوائد الصمت النفسية، بالإضافة إلى كونه أداة تواصل، فإن للصمت فوائد نفسية كبيرة. فالدراسات تشير إلى أن الصمت يمكن أن يساعد في تقليل التوتر والقلق، كما يعمل على تحسين التركيز والإبداع، وأيضاً تعزيز الوعي الذاتي والتفكير العميق.
عندما نختار الصمت، فإننا نعطي لأنفسنا الفرصة للاستماع إلى أفكارنا الداخلية، مما يساعدنا على فهم أنفسنا بشكل أفضل.
إلا أننا في حاجة لاستخدام الصمت بوعي لتحقيق أقصى استفادة منه، ويمكن اتباع النصائح التالية:
ــ استمع أكثر مما تتكلم: عندما تصمت، فإنك تمنح الآخرين مساحة للتعبير عن أنفسهم، مما يعزز التواصل.
ــ استخدم الصمت في اللحظات الحاسمة: في المناقشات الشديدة، يمكن أن يكون الصمت وسيلة لتهدئة الأجواء وإعادة التركيز.
ــ مارس الصمت يومياً: خصص وقتاً يومياً للصمت والتأمل، لتحسين صحتك النفسية والعقلية.
الصمت ليس فراغاً، بل هو مساحة مليئة بالمعاني والأفكار والتصورات. في عالم يطغى عليه الضجيج، يمكن أن يكون الصمت هو السلاح الأقوى للتواصل الفعّال. عندما نتعلم استخدام الصمت بوعي، نكتشف أنه يمكن أن يكون أداة لتعزيز العلاقات، وتحسين الصحة النفسية، وحتى تغيير الطريقة التي نتفاعل بها مع العالم من حولنا.
لذا، في المرة القادمة التي تشعر فيها بأن الكلمات لن تكون كافية، جرِّب الصمت. قد تتفاجأ بقوته!
إلا أننا نستخدم ميزة الصمت بطريقة عرجاء وبعد (ورجغة) معلقاتية مطولة، ثم نختمها بـ (خليني ساكت). برغم أننا خلقنا بأذنين ولسان واحد، لنستمع صامتين أكثر مما نتكلم، لنعقل ما تلقيناه.
اترك المِكثار، فلن تصيب منه غير الحشو، فهو غميق بطبعه.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *