فساد بعثة الحج السودانية.. استنزاف المقدسات واغتيال الأحلام

11
مكة المكرمة

تحقيقات - «فويس»

• في ظل الأزمات المتلاحقة التي يعيشها السودان، حيث تتداعى مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى، يبرز فساد بعثة الحج السودانية كواحد من أكثر الملفات إيلاماً، ليس فقط لأنه يستهدف أبسط حقوق المواطنين، بل لأنه يمس قدسية فريضة عظيمة مثل الحج، ويحولها من مناسبة روحانية إلى سوق للمتاجرة بآمال وأموال البسطاء.

صحيفة «فويس» تكشف في هذا التحقيق، كيف تحولت بعثة الحج السودانية إلى وكر للفساد الممنهج، حيث تتضافر جهات رسمية وأخرى غير رسمية لاستنزاف أموال الحجاج، الذين يبيعون ممتلكاتهم ويقترضون لتحقيق حلم العمر، فقط ليجدوا أنفسهم ضحايا لآلة فساد لا ترحم.

تغريد خارج السرب

اكد الاجتماع الختامى لبعثة حجاج السودان لحج العام 1446 برئاسة الاستاذ سامي الرشيد رئيس مكتب شئون الحجاج الذي عقد بمكة المكرمة، أن نجاح حج العام الحالي يجسد وفاء الدولة بالتزاماتها العقديه والوطنية تجاه حجاج بيت الله الحرام.

واشاد سامي الرشيد خلال الاجتماع الذي ضم أمناء الولايات والبعثات المتخصصة، بالمتابعة الدائمة والرعاية لمجلس السيادة واهتمامه بانجاح شعيرة الحج .

و أشار الي ان التنسيق مع وزارة الحج والعمرة السعودية وقطاعاتها المختلفة أسهم في تعزيز نجاحات مسيرة ومراحل موسم حج هذا العام

وكشف سامي الرشيد عن ان الاجتماع استعرض الخطة الإدارية والتنظيمية واللوجستية بهدف معالجة مواطن الخلل وتطوير مسار التجربة.

واعرب سامي الرشيد عن تقديره لرئيس مجلس السيادة ونائبه ورئيس مجلس الوزراء كامل إدريس لدعمهم اللامحدود لأعمال الحج ومتابعتهم لأوضاع الحجاج.

وأوضح الأمين العام للمجلس الأعلى للحج والعمرة ان زيارة قنصل عام السودان بجدة. السفير د. كمال على للحجاج واطمئنانه خلال جولاته الميدانية على أحوالهم إنفاذاً لتوجيهات رئيس مجلس الوزراء وجدت صدى طيباً في نفوس الحجاج الذين بدورهم أشادوا برعاية الدولة واهتمامها بشؤون مواطنيها.

لجان بلا طحين

 أما علي النعيم محمد نور فقال:

لقد تجاوزنا مرحلة الفساد في المال العام إلى مرحلة أخطر، وهي الفساد في مال الله. لدينا فساد في الزكاة نتغاضى عنه ولا نجرؤ على كشفه، والآن فساد الحج الذي يتكرر منذ أكثر من ثلاثين عاماً كأسطوانة مشروخة: رشاوى وعفن وفساد، ثم ينتهي كل شيء بانتهاء موسم الحج، ليعود الوضع كما كان وكأن شيئاً لم يكن.

المجلس الوطني يشن حملة تشكيل لجان تحقيق، لكن كل عضو في اللجنة يأخذ «ظرفه» المليء بالمخصصات، وينتهي الأمر دون نتيجة. يُستدعى المسؤول للتلفزيون الوطني لمناقشة قضية الحج، فيعتذر في اللحظة الأخيرة، ثم يُستدعى مدير الحج والعمرة فيعتذر هو الآخر.

أولى مظاهر الفساد تبدأ باختيار السكن للحجاج في المدينة ومنى ومكة. هذه العمائر مهجورة ومتهالكة طوال العام، ولا تُستخدم إلا في أيام الحج، وهنا تبدأ السمسرة. تكون المناطق نائية وخدماتها سيئة، والعمائر غير مجهزة بالكامل، ومصاعدها معطلة، وبعيدة لدرجة أن الحجاج يتيهون عند العودة إليها. بينما في معظم الدول الأخرى، يكون سكن الحجاج قريباً من الحرم، ولا يستغرق الوصول إليه سوى دقائق معدودة.

حال وصول الوفد إلى السعودية، يتهافت السماسرة عليهم (بظروفهم) المعروفة، ويتم التعاقد دون شروط واضحة، مع تجاهل الاشتراطات الأساسية للسكن. والدليل أن حجاج العاصمة الخرطوم – الذين يُتوقع أن تكون أصواتهم مسموعة – يُسكنون بجوار الحرم في مساكن تتوفر فيها جميع الخدمات، بينما يُوزع باقي الحجاج على مساكن متهالكة في أماكن نائية.

لقد حججت ثلاث مرات، وما رأيته من معاناة الحاج السوداني لا يرضي الله ولا الدنيا ولا الأخلاق.

ثانياً: فساد ترحيل الحجاج

يدفع الحاج مسبقاً ثمن ترحيله بين المدن والمشاعر، لكن ما يحدث من فساد يفوق التصور. لا يوجد تنظيم ولا ضبط، فبعثة الحج تستأجر أقل من نصف عدد الحافلات المطلوبة حسب عدد الحجاج، مما يؤدي إلى زحام شديد واضطراب في التنقل. فيضطر الحجاج إلى دفع مبالغ إضافية من جيوبهم لاستئجار حافلات أخرى، رغم أنهم قد دفعوا ثمن الترحيل مقدماً، وكان من المفترض أن يكون لكل حاج مقعد مضمون.

ثالثاً: فساد السكن في منى

منى مقسمة حسب الجودة من نجم إلى سبعة نجوم، لكن الحجاج السودانيين لا نجوم لهم! يُسكنون في أسوأ المناطق، حتى عمال النظافة يرفضون دخولها لبعدها ورداءتها، والحمامات غير صالحة للاستخدام. كل التطورات التي شهدتها خدمات الحج لم يصل السودانيون إليها شيء.

رابعاً: فساد الطيران (وهو الأخطر)

كشف الإعلام هذه القضية مراراً، حيث يُترك الحاج في المطار أياماً ينام على الأرض بلا مال ولا مساعدة، رغم أن شركات الطيران أعضاء في اياتا ويمكن محاسبتهم على التأخير.

خامساً: فساد الطعام

من أكبر أخطاء الدولة أن تترك أمر الطعام لإدارة الحج، التي تستقطع مبالغ طائلة من الحجاج ثم تقدم لهم وجبات رديئة وغير لائقة. كان الأفضل أن يبقى المال مع الحاج ليختار طعامه بنفسه. ويُقال إن معظم هذه الوجبات تصل إلى البعثة مجاناً!

الحج أصبح أكبر مظهر للفساد عند السودانيين، وسيستمر الوضع هكذا كل عام. وأجزم بأن 5٪ من حجاج السودان لم يؤدوا المناسك كما ينبغي، بسبب جهلهم بالأماكن أو الشعائر، ذلك لأن المسؤولين السودانيين منشغلون بكل شيء إلا براحة الحجاج.

من داخل اللجان

كما كتب حسين محمد سعيد عمر:

الأخوة والأخوات جميعاً

تكلمتم عن فساد الحج والعمرة

وتعجبتم كيف يفسد الناس في أموال الحجاج وفي الأراضي المقدسة

وأنا أقول لكم ان الفاسد المعتدي على أموال الناس بالباطل لا يهمه الأراضي المقدسة أو غيرها لانه مادام استحل المال الحرام فهو بالضرورة لا يقدس الا مصالحه الضيقة

وان تظاهر بالتدين أو بخدمة الحجاج فهو يفعل ذلك من أجل أن يخدع الناس

روي عن الخليفة المنصور انه قال شعرا يصف فيه اعوانه الحرامية ورجال الدولة للذين يظهرون التدين من أجل الوصول لسرقة المال العام

قال:

كلكم يمشي رويدا

كلكم يطلب صيدا

إلا عمرو بن عبيدا

في عام ١٤١٥هجري حدثت نفس المشاكل في حج عام ١٤١٥هجري وسمع البشير بذلك واستفسر من وزير التخطيط الاجتماعي وكان رجلا نحسبه والله حسيبه من الصالحين رحمه الله تعالى بواسع رحمته واسكنه فسيح جناته هو الأخ الصديق محمد عثمان الخليفة وزير التخطيط الاجتماعي الأسبق

فشكل الوزير لجنة تحقيق برئاسة شخصي الضعيف وكنت يومها الوكيل بالانابة

ومهمة اللجنة كانت التحقيق مع رئيس بعثة الحج لذلك العام ومع مساعديه

كما كلفت اللجنة بكتابة تقرير الحج لذلك العام بعد أن رفض وزير شؤون مجلس الوزراء تقرير الحج لذلك العام لانه لم يشر الي تلك التجاوزات

وقد منحت تلك اللجنة بصلاحيات واسعة كما سمح لها

بالاطلاع على التقارير السرية التي كتبها جهاز الأمن  عن حج ذلك العام

وقد مارست تلك اللجنة عملها برئاستي بكل شفافية ولكننا ذهلنا من حجم التجاوزات التي صاحبت حج ذلك العام

كما ذهلنا من الفرق المالي الكبير بين التكلفة الحقيقية للحج في ذلك العام وبين ما فرض على كل حاج لدرجة اننا وجدنا ان الحاج دفع حوالي ٨٠٪ زيادة على التكلفة الحقيقية

كما كشفنا الكثير من انواع الفساد المالي والأخلاقي والدبلوماسي الذي صاحب حج ذلك العام ١٤١٥هجري

ولما رفعنا التقرير للسيد وزير التخطيط الاجتماعي رحمه الله أعجب به ايما إعجاب وصدق على رفعه للسيد آمين عام مجلس الوزراء وقمت بذلك شخصيا وتم تسليم التقرير بعد طباعة ٥٥ نسخة منه تمهيدا لتقديمه لجلسة مجلس الوزراء المخصصة لمناقشة فعاليات حج عام ١٤١٥هجري

ولكن تسرب التقرير بطريقة ما رغم انه سري للغاية تسرب من مكتب الأخ نصرالدين آمين عام مجلس الوزراء

ووصل الي مديرعام الأوقاف

ومدير عام الشؤون المالية والإدارية

ومدير عام إدارة الحج بالوزارة

وغيرهم من أعضاء بعثة الحج التي لا نفذت حج ذلك العام

وطلبوا اجتماعا عاجلا مع الوزير

وطالبوه في ذلك الاجتماع يمنع وصول ذلك التقرير الي جلسة مجلس الوزراء

فقال لهم الوزير لابد من سماع رأى رئيس اللجنة التي اعدت التقرير

وفعلا طلب مني الوزير تلفونيا بالحضور لمكتبه عاجلا للانضمام للاجتماع

وفي الاجتماع تكلم بعض هؤلاء الذين ذكرتهم عن التقرير وان تقارير الحج عادة لاتذكر مثل هذه الأشياء بل هي مخصصة لعكس الايجابيات

فقلت للمجتمعين والوزير يسمع

هل المعلومات الواردة في التقرير صحيحة وموثقة ام هي مجرد اتهامات بلا أدلة.

ثم وجهت كلامي للوزير قائلا:إذا كان الكلام الوارد في التقرير صحيحا فلابد من التحقيق ومحاسبة كل من أفسد

وإذا كان ما في التقرير مفبرك وغير حقيقي فلابد من محاسبتي انا وأعضاء اللجنة التي كتبت هذا التقرير

فقال الوزير للمجتمعين، وكان بعضهم من النافذين جدا في الحزب: يعرض التقرير على مجلس الوزراء واذا وجد المجلس التقرير مفبركا فسنحاسب اللجنة التي كلفت بكتابته

وإذا كان التحقيق صحيحا فمجلس الوزراء سيحاسبكم انتم. وفعلا عرض التقرير على مجلس الوزراء واندهش الوزراء من حجم الفساد الذي صاحب حج ذلك العام

واندهشوا من الفرق بين تكلفة الحج الحقيقية وبين ما دفعه الحاج فعليا.

كما اندهش مجلس الوزراء من حقيقة وردت في التقرير وهي ان حكومة وشعب السودان هما أكبر ملاك الأوقاف في المملكة العربية السعودية في المدينة المنورةومكة المكرمة. وفي مدينة جدة

وان هذه الأوقاف لو لا الفساد وسوء إدارتها لكانت كفيلة بأن يكون السكن للحجاج السودانيين في مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر شبه مجاني

أما ماذا حدث في جلسة مجلس الوزراء والتي خصصت لمناقشة ذلك التقرير عام ١٤١٥هجري

فكانت مهزلة.. ومن يومها بدا اليأس يدب في نفسي من صلاح حال بلادنا.

وكانت تلك الجلسة هي اول ما جعلني افكر بجدية في الاستقالة من العمل مع نظام الإنقاذ

وقد اكرمني الله وحقق لي هذه الأمنية.

هذا والله اعلم

هل يُحاسب المفسدون

وكتب صلاح أحمد تحت عنوان: هل يستطيع كامل إدريس محاسبة الكيزان الفاسدين؟

في أول امتحان حقيقي له على رأس الحكومة، يواجه رئيس الوزراء السوداني، د. كامل إدريس، اختبارًا بالغ الحساسية: هل يجرؤ على محاسبة رموز الفساد في هيئة الحج والعمرة، في قضية اهتز لها ضمير الشعب السوداني، وشاهد تفاصيلها المؤلمة كل العالم؟ وهل يمكن أن تمتد المحاسبة لتشمل منظومة الكيزان الذين ما زالوا يتحكمون في مفاصل الدولة، من الاقتصاد إلى الأمن، ومن الحج إلى الحياة اليومية؟

ليست المأساة التي تعرّض لها الحجاج السودانيون في موسم حج هذا العام حدثًا عابرًا، بل هي الكاشف الصريح لمستوى الانهيار الأخلاقي والإداري داخل مؤسسات الدولة، وتحديدًا داخل هيئة الحج والعمرة التي تحوّلت إلى مشروع تجاري بامتياز، يديره نافذون بعضهم ينتمي إلى النظام البائد، وبعضهم الآخر يمثل تحالفات غير مقدسة مع قوى حاكمة حاليًا في بورتسودان.

15 ألف ريال دفعها الحاج السوداني، مقابل ماذا؟ خيام تختنق بالحرارة، وحمامات تفتقر للنظافة، ووجبات لا تليق حتى بمستوى السجون، وسكن أقرب إلى الخرابات. بل إن بعض الحجاج – ومنهم كبار في السن – افترشوا الأرض في منى، بلا رعاية ولا ماء ولا رحمة.

أحد الأسماء التي لم تفاجئ كثيرين حين طُرحت في قلب الفضيحة هو سامي الرشيد، الذي سبق أن كشفت الصحفية راشان أوشي عن سجله في قضايا فساد، وكيف تم تعيينه رغم هذا التاريخ، في موقع حساس. والأخطر أن هذا التعيين تم في سياق تفاهمات سياسية بين رموز من النظام البائد ونافذين في الحركة الشعبية، ليؤكد أن الفساد لم يُجتث، بل أُعيد تدويره بأسماء وواجهات جديدة.

اللافت أن كامل إدريس، تعهد بمحاسبة كل المتورطين في “الكارثة الإنسانية”، وشكّل لجنة وطنية برئاسته للتحقيق في ما حدث. ورغم أن هذا التحرك يبدو جادًا، إلا أن التحدي الحقيقي يكمن في الإجابة على سؤال أكبر: هل يمتلك إدريس فعليًا أدوات المحاسبة، أم أن سلطته محصورة بما يسمح به الفريق أول عبد الفتاح البرهان، الذي جاء بإدريس أساسًا ليكسب حكومته شرعية شكلية لا أكثر؟

البلاغات ضد هيئة الحج والعمرة – ومنها البلاغ رقم (54/2025) الذي فتحته نيابة المال العام – تتحدث عن سرقة 3.6 مليون ريال من أموال الهدي وحدها، وتلاعب في عطاءات البواخر، وتكلفة حج وصلت إلى أكثر من 20 ألف ريال دون أي خدمات تُذكر. لكن الأخطر هو الإحساس العام بأن الفساد لا يُعاقب، بل يُكافأ، وأن المعاناة – حتى في مناسك الحج – تُدار بعقلية الربح الشخصي والانتهازية الباردة.

المأساة هنا ليست فقط في سوء الخدمات، بل في تحويل شعيرة مقدسة إلى فرصة للتكسب والتربّح. وقد باتت هيئة الحج والعمرة نموذجًا فاضحًا لكيفية امتداد فساد النظام القديم إلى ما بعد الثورة، في ظل غياب الإرادة السياسية الحقيقية لقطع دابر الكيزان من مؤسسات الدولة.

أمام كامل إدريس فرصة تاريخية، بإقالة الفاسدين فورًا، وإحالتهم للمحاكمات العلنية، وكشف الحقائق للشعب دون مواربة.

والسودان لا يزال في قبضة الفساد المقنن بواسطة الكيزان والانتهازيين، وهم في النهاية أقوى من كمال إدريس، بل ان الفساد متورط فيه حتى البرهان نفسه وأعضاء مجلس السيادة، ووزراء الحركات المسلحة.

من رحم المعاناة

وهنا حاج سوداني يتحدث بمرارة لا تخفى: (يا جماعة، والله العظيم الحجة دي ما طاقتني ولا طاقت زول من اللي كانوا معايا. أنا الحاج م. ع. من أم درمان أصلاً، ودي حكايتي اللي ما عارف أنساها طول عمري.

من بدري ونحنا فاكرين إنو الحج رحمة، لكن اللي حصل لينا دا كان قلة ذوق وعدم مسؤولية. دفعنا قروش تقريباً 20 ألف ريال ، اللي هي بالنسبة لينا ثروة ، عشان نكون في أمان وراحة، لكن اللي لقيناهو كان صفقة خسرانة من أولها لآخرها.

المخيم اللي ساكنين فيهو كان بعيد عن الحرم مسافة ساعة كاملة مشياً، والحر لا يرحم، والزحمة تقتل. والباصات؟ الله المستعان! نقعد نقابض في البصات وفي النهاية نضطر نمشي تحت الشمس الحارقة لغاية ما  نصل الحرم ونحن تعبانين ما فينا حيل.

الوجبات؟ والله العظيم ما تكفي طفل صغير. كنا ناكل فول بالعافية، والخبز جافّ زي الحجر. مرة شفت حاجة كبيرة في السن قاعدة تبكي من التعب والمعاناة. دا غير إنو المياه كانت نادرة، وكنا نضطر نشتريها من برة بأسعار خيالية.

أما السكن، فكان كارثة. الخيمة ضيقة وحارة، والحمامات مقرفة ومزدحمة. كنا نستحي ندخل الحمام من القذارة، والزحمة عليه كانت أسوأ من زحمة الجمرات.

اللي زاد الطين بلة إنو بعض المسؤولين في البعثة كانوا يتعاملوا معانا باستهتار. مرة شكيت ليهم في المواصلات، فقالوا لي: انتظر بس يا حاج وكل حاجة حتكون تمام.. ثم اختفوا في ثواني.

والله يا جماعة، الحج المفروض يكون رحمة وتقوى، لكن الفساد اللي في البعثة خلاّ الحج تجربة مرة. أنا ما ندمت على الحج، لكني ندمت على الفلوس اللي دفعتها واللي راحت في جيوب ناس ما تستحق.

اللي يقرا كلامي دا، ولو كان مسؤول، يتذكر إنو يوم القيامة مافي واسطة ولا رشوة. الحجاج ناس بسطاء بيحلموا بزيارة بيت الله، ما بيستحقوا المعاملة دي.

والله شهيد على اللي قولتو.. واللي خسر فلوسه ووقته وراحته في الحج دا، الله يعوضه خير في الدنيا والآخرة).

 فضائح عابرة للحدود

يقول أحد أصحاب شركات التفويج السعوديين، استطلعته (فويس):

«الفساد في بعثة الحج السودانية ليس وليد اللحظة، بل هو داء متأصل يتجدد كل عام كالورم الخبيث، حيث تتشابك خيوطه مع مسؤولين كبار في الدولة في نسيج معقد من الرشاوى والتواطؤ. فمن ناحية تفرض البعثة رسوماً خيالية على الحجاج تصل إلى 20 ألف ريال سعودي للحاج البسيط، بينما ينعم المسؤولون وأسرهم برحلات حج مجانية تحت ستار (على نفقة الدولة)، في حين أن الحقيقة المرة هي أن هذه النفقات تُستقطع من دماء الحجاج أنفسهم. هذه المعادلة المشبوهة تُصمم عمداً لشراء صمت المسؤولين عن الفساد المستشري والتقصير المتعمد في خدمات الحجاج.

التفاوت الصارخ بين ما يُقدم للمسؤولين وما يحصل عليه الحجاج يصل إلى درجة السخرية، فبينما يقيم المسؤولون وأسرهم في فنادق خمس نجوم تلامس أبواب الحرم، وينعمون بمواصلات فاخرة وخدمات سياحية مجانية تليق بالأمراء، يُحشر الحجاج في مخيمات أشبه بمعسكرات الاعتقال على أطراف مزدلفة، حيث تتحول الخيمة المخصصة لعشرين شخصاً إلى زنزانة جماعية لستين حاجاً يتقاسموا مرحاضاً واحداً. أما الطعام فحدّث ولا حرج، وجبات هزيلة من الفول أو العدس لا تسمن ولا تغني من جوع، رغم أن الميزانية الرسمية تخصص 55 ريالاً للوجبات اليومية، بينما لا تتجاوز ما تقدمه البعثة للحاج أكثر من 8 ريالات.

هذا المسلسل الفاسد ليس جديداً، بل هو إرث ثقيل منذ عهد النظام البائد، حين حاول بعض المخلصين كشف فساد المطيع محمد أحمد رئيس بعثة الحج الأسبق، لكن الأقدار – أو بالأحرى المافيا الحاكمة – أرادت غير ذلك، فقد ظل المطيع في منصبه لأنه كان الذراع التي تنظم حجاً مجانياً لعائلات النافذين. لقد شهدنا بأعيننا مآسي لا تُحتمل، من حاجة مسنة تلفظ أنفاسها الأخيرة من الجوع في منى، إلى حجاج مضطرين لشرب مياه خراطيم الحريق في الفندق بعد أن جفّت منابع المياه النظيفة.

أما فضيحة أموال الهدي فهي باب آخر من أبواب الجحيم، حيث يدفع الحاج 720 ريالاً ثمناً للهدي، بينما تشتري البعثة الخراف بأربعمئة ريال فقط، والأفظع أنها تشتري عدداً هزيلاً لا يكفي إلا لعشر الحجاج. كل هذا يحدث تحت سمع وبصر السفارة السودانية بالرياض والقنصلية بجدة، اللتين تتحولان من ممثلتين للدولة إلى شريكين في الجريمة.

ثلاثون عاماً من نفس السيناريو المخزي يتكرر بلا خجل، لجان تحقيق وهمية تموت تقاريرها في الأدراج، ووعود كاذبة تتبخر مع انتهاء الموسم. حتى خدمات النقل لم تسلم من النهب، فبعد أن تدفع البعثة مبالغ طائلة للفنادق نظير النقل، تتحول هذه الأموال إلى جيوب وسطاء ومسؤولين، بينما يُترك الحجاج عالقين تحت شمس مكة الحارقة، أو يُنقلون في باصات أشبه بمقابر متنقلة.

في ظل الحرب الدائرة اليوم، يصبح هذا الفساد جريمة مزدوجة، حيث لا يحصل الحاج إلا على نصف ما دفعه من خدمات، بينما يذهب النصف الآخر لتمويل قصور الفاسدين وسياراتهم الفاخرة. إنها معركة كرامة يجب خوضها، ليس فقط بمحاسبة المسؤولين، بل باستعادة كل قرش سرق من دماء الحجاج، وإلا فما الفرق بين من يحمل السلاح لنهب الأرزاق، ومن يجلس في المكاتب المكيفة لنهب أموال الحجيج؟».

نزع الإحرام

وكتب د. شنان محمد الخليل تحت عنوان: نزع الإحرام… كشف ما يلقاه الحاج السوداني من عنتٍ ولا احترام!!

انقضى موسم الحج بحمده تعالى… والكل سعيد بما حقق فيه من فائدة وما كان يرجو، فحكومة خادم الحرمين الشريفين سعيدة لأن الموسم انتهى دونما حوادث تذكر في رمي الجمرات… و(سودانير) سعيدة بما حققت في الموسم من إخفاقات، ودبجت المقالات والمؤتمرات الصحفية، وقبضت الحوافز وحمدت الله تعالى… والبعثة السودانية سعيدة بما دخل في جيبها وجيوب منسوبيها من أموال الحجاج، وسعيدة لأنها نجحت في الكف عن البحث عن النجاح والتطوير للتجربة، فرضِيَت من الغنيمة بالإياب، وسعيدة لأنها حصلت على شهادة الآيزو – ومن دون جميع البعثات – في سوء الخدمات، ولعل في سوء الخدمات هذا خيراً كثيراً… فبعض السوء هذا من المشقة الواجب توافرها في الحج للحاج حتى يكون الأجر فيه عظيماً!! وبعض هذا السوء من سوء الإدارة، وبعضه من سوء الإمارة.. وبعضه من سوء النفس الأمَّارة.. والحاج السوداني سعيد لأنه أدى مناسكه وعاد لوطنه سالماً دون أن يموت بالضغط والذبحة الصدرية أو بالسكري أو بالعقوبتين معاً!! 

و…»خدمة الحاج شرفٌ لنا» هو شعار الجهات التي تعمل في خدمة الحجاج هنا وهناك لهذا العام ولأعوام خلت قبله، ولعل الجهة الوحيدة التي لم تكتب ذلك على أوراقها وتذاكرها هي (سودانير).. ولو حتى شكلياً كبعض الجهات، وإن كانت خدمة الحاج في حقيقة الأمر هي «قَرَفٌ» لهم!! (كنت تتعلم تجامل لو فؤادك مرة جرّب) و(سودانير) لم ولن تدع حالها.. سوءٌ في الخدمات، وإخلاف للمواعيد، وهرجلة غير مفهومة إلا منها – وإن جاء العيب من أهل العيب ما يبقى عيب – فالأمير والتذكرة معه كانا يؤكدان بأن الطائرة ستقلع في التاسعة مساءً، وأن الحضور يجب أن يكون قبل أربع ساعات، والأمير يؤكد ويكرر بأن الحضور في الخامسة مساء الأربعاء.. ولمعرفتي القديمة بسودانير فقد ذهبت في السابعة والنصف، ولكن الطائرة أقلعت في الساعة الثانية عشرة والنصف صباح الخميس التالي، ليكون من حضر في الموعد المحدد قد مكث قرابة الثمان ساعات.. ولا اعتذار ولا تعليق، هذه الساعات الثمان تقلصت في رحلة العودة إلى خمس ساعات فقط… طلبت من المضيف مشروباً خالياِ من السكر ذهاباً وإياباً فاعتذر في المرتين ولا تعليق!! ونحمد لهم أنهم أهدونا شمسية نستظل بها من هجير الانتظار، وحقيبة نحمل فيها همومنا، وماء زمزم لنستشفي مما تكون قد سببته لنا من أمراض!! لعل دعوات الحجاج الدائمة عليها باللعنة هي سبب تدني خدماتها، وتخلّفها عن ركب الطيران العالمي، ووصولها لهذا الدرك، حتى حازت عن جدارة لقب (الشركة الملعونة في السودان)… يا ستهم!! 

 هبطنا مطار المدينة المنورة حوالي الثالثة إلا قليلاً فجر الخميس غرة ذي الحجة، وثمة أمل وتفاؤل يسمو بنا فوق جراح سودانير وتأخيرها، فالقدر وحده هو الذي أوقعني في بعثة الخرطوم (ج)، لنتبع للمجموعة الميدانية المسماة (السودان 89).. وهو اسم «شرنقي» يدعو للتفاؤل والأمل، فسودان 89 هو سودان الثورة والأمل والصدق والتجرد.. ثم.. (كان ما كان وبتنا كلنا ناءٍ غريب)!!… الاستقبال الفاتر و»الاستهبال» المستتر والظاهر كشف ما بيتته البعثة من نية حين تحدث أحد المرشدين مرحباً بالحجاج، ومبيناً أن الصدق وليس الكثرة هو الأصل في العمل، فليس بالضرورة أن تصلي 40 صلاة، فصلاة واحدة صادقة قد تكون خيراً من الأربعين صلاة.. بقى كدا!! والنية هذه تجلت بعد أربعة أيام فقط، عندما تم إخطارنا بأنه علينا الاستعداد للرحيل إلى مكة بعد صلاة العشاء، لأن أمير منطقة المدينة قد أمر بإخلائها.. بالله!! (والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون). سكنّا في فندق يبعد كيلومترين مربعين عن الحرم، وشرح أحد أفراد الإرشاد المناسك وجواله يغني «دار أمبادر ياحليلا» أمبلينا السنوسي، وقامت د. سامية وزيرة الرعاية الاجتماعية بولاية الخرطوم بزيارتنا ولا جديد.

ورحلة المدينة – مكة التي بدأناها عند الحادية عشرة مساء (والتي تستغرق عادةً خمس ساعات) قطعناها في اثنتي عشرة ساعة ولا تعليق!! وبعد جولة بين عمائر البعثة في مكة، انتهى بنا المقام في العزيزية في عمارة تبعد عن المسجد الحرام حوالي الثلاثة كيلومترات، كان علينا أن نمشيها سيراً على الأقدام اعتباراً من اليوم التالي لوصولنا، لأن السلطات السعودية توقف رحلات خدمة الحجاج للصلوات بعد يوم 6 ذي الحجة، هذا التوقف استمر للحجاج الآخرين لما بعد أيام التشريق، واستمر معنا لحين عودتنا إلى السودان، حيث لم يصلنا أي بص ليقلنا إلى الحرم… ليه؟ مش عارف.

وأمر الترحيل هذا العام هو واحد من إخفاقات البعثة،  حيث دفعنا مبلغ 347.5 ريال للترحيل، فلم نستفد إلا من أقل من نصفه، والسبب هو تعاقد البعثة مع شركة الجزيرة التي يقود حافلاتها سائقون من دولة «شقيقة»، بينما كان التعاقد في السابق يتم مع شركة حافل التي يقود حافلاتها سائقون من السودان، وهو فرق شاسع بين سائق «ود قون» وآخر غير، وما عرف عنهم من لف ودوران، وعدم التزام في المواعيد، أو عدم التزام في الحضور أصلاً بحجة الازدحام وتعطل الحركة.. ورد أول ورد ثاني.. فهم في ريبهم «يترددون»!! وهكذا بين تلبية الحجاج و «تلبيكة» السيارات انقضت أيام الحاج السوداني، بعضهم ضاع في زحمة الأحداث، وبعضهم تاه عن منى ومزدلفة، وبعضهم تاه عن عرفات!! وفي عرفات وحين طال مكثنا فوق رأس أحد البصات انتظاراً لانفراج الزحام، طلب بعض الحجاج من السائق أن يرفع السلم لينزلوا ليقضوا حاجاتهم، فرفض واحتد في الكلام وقال «طب أعملكو أيه؟» فرد أحد الحجاج «جيب لينا بمبرز!!»، فرفض الحلين المطروحين ثم أخذ يجادل الحجاج، فقال له أحدهم: حج يا حاج. فرد أحج بتاع يا عمي!! وكان محرماً.

وفي عرفات دعا من وصلها من الحجيج السوداني للسودان بالخير والسلام والأمن، وبعضهم دعا على البعثة،  وبعضهم دعا على سودانير.. ولكني رفعت يدي بالدعاء «… إلهي.. إلى من تكلني؟؟ إلى بعثةٍ تتهمني أم إلى مطوفٍ ملكته أمري؟؟ إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أُبالي.. ولكن عافيتك هي أوسع لي ولا حول ولا قوة إلا بك.. اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على البعثة..». وفي عرفات كلفني أمير فوجنا بأن أذهب قبل الغروب مع بعض الشبان ونقوم باستلام البص، حتى لا يتم توجيهه وجهة أخرى، أو يتم احتلاله من قبل المقيمين ويصعب إنزالهم منه،  ففعلنا، وكنا كلما جاء حاج أو حاجة نسلمه المقعد حتى جاء أحد أمراء الأفواج «أُمراء دولة الطوائف» فخطب فينا خطبةً شتراء بتراء، ودون أن يعلم من نحن ولماذا جئنا، وماذا نفعل في البص، وفي لغةٍ حادة مدببة محدبة جارحة، قال الأمير عادل: شوفوا يالشباب الراكبين في البص ديل، أنا ما بسمح لأي واحد فيكم إنو يركب جوا البص، وفي سبيل تنفيذ الكلام دا أنا مستعد أقلع إحرامي دا هسة وأخلي الحج ذاتو»!!.. المثل السوداني بقول ( البلاقيك مشمر لاقيهو عريان.. طيب دا ملاقينا عريان نلاقيهو كيف؟؟)، ودمدم الغضب في صدور الشباب وجمجم وتمعرت وجوههم، فخرجنا من البص في صمت شباباً وشيباً فوق الستين، كلهم صعدوا لماذا يا حجاج؟؟ قالوا: ما نستحمل نسمع كلام فارغ!! حج يا حاج!!

هل نتركه؟ لا.. هل ندعو عليه في يوم عرفة؟ لا.. ومن رأس البص ومع غروب شمس يوم عرفة، رفعنا أكفنا بالدعاء.. «اللهم أغفر له وارحمه وحسِّن خُلُقَه وسامحه، ولا تسلطه على أحدٍ من بعدنا..»، وأغلقنا ملف سيرته وفعلته.. ولذلك حينما صعد معنا في رأس البص ولم يحس بالترحيب غادر إلى موقع آخر، لا ندري ماذا أحدث فيه.

والحديث عن أُمراء الأفواج حديث يطول… منهم «ظالمٌ» لنفسه.. مثل «عادل» الذي أسلفنا حكايته… ومثل حامد الذي استكثر علينا الغرفة 5×5 ونحن 16 حاجاً، واحتد في الكلام طالباً منا مغادرتها والسكنى في أي خيمة أخرى، بدعوى أنها ستكون رئاسة هيئة الإمارة  «الإمارة أم الأمَّارة لا أدري»!! ومقر هيئة اجتماعاتها.. فلما رفضنا الرحيل ذهب «سمو الأمير» يطمطم ويدمدم بكلامٍ غير مفهوم.  ومن الأمراء أيضاً واحد لم أدرِ ما اسمه، ولكني أدري ما «إثمه».. فقد سمعته يجادل الحجاج عن الخدمات ويقول ختاماً: «دا واقعنا كدا ودي خدماتنا.. العاجبو عاجبو… والماعاجبو يدفع 8 مليون ويمشي يحج حج سياحي مع ليلى علوي»!! إي وربي هكذا قال… ذهبنا نتعرف على أهل الحج السياحي، فوجدنا حالهم يغني عن سؤالهم «يشكو لي ربنا»، وكما قال الراحل علي المك «ذهبنا نشكو حالنا لطوب الأرض فوجدناه ذهب يشكو حاله لرب السماء»… فطفقنا عائدين ونحن ندعو.. «اللهم ارزقنا حجةً مع ليلى علوي.. وعمرةً مع نادية الجندي.. وشهادةً في سبيلك.. وأدخلنا الجنة مع نانسي عجرم!!»، فالأمراء منهم ظالمٌ لنفسه كمن أسلفنا… لا يقول خيراً ولا يصمت. ومنهم مقتصد كافٍ خيره شره.. لا تحس منهم من أحدٍ ولا تسمع لهم ركزاً. ومنهم سابقٌ بالخيرات يطوِّف ويسعى مع الحاج ويرشد ويطعم ويسقي ويطبب و»يتمم» ولا ينام حتى ينام آخر حاج مثل كمال محمد عبد الرحيم، والذي سمعت بأُذني إحدى الحاجات تدعو له بالرضى والتوفيق ومن فوق جبل عرفة.

أما منى وما يحدث فيها فهو مربط الفرس و»الرفث»، ومن حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه.. ومن حج من السودان ولم «يرفس» ولم «يفلق» أو يشوط الأرض غيظاً ولم «يفلق» رأسه بشيء رجع كيوم جاءت به البعثة!! ولعل أول المعاناة أن السكن كان في نهاية منى وبداية مزدلفة، وهو المكان المعروف بوادي محسَّر، وهو وادي العذاب الذي قيل إن الله قد أهلك فيه أصحاب الفيل «فما بال أبناء النيل!!».. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يمر به يسرع في السير متجاوزاً ويأمر بذلك.. ولكن من سوء طالعنا  أنه مقر إقامتنا، ولعل هذا هو سبب ما نحن فيه من عذاب… 

فمقر البعثة لقطاع الخرطوم (ج) 89 في وادي العذاب يقع في ثمان حملات، وفي كل حملة اثنا عشر فوجاً، وفي كل فوج 46 حاجاً.  8×12×46 «كل بيتاً ليهو حوشين وكل حوشاً ليهو بابين وكل باباً ً فيهو غفرين وكل غفراً عندو كلبين وعندو حربة وعندو سكين عاد يالحاج ترتاح بي وين؟»  8× 12× 46 كم تساوي، مضافاً إليها بعثة إدارية وأمير تائهين وبعثة طبية ومدير مناسك وبعثة إعلامية و…بعثة.. ومدير… إلخ، ما يربو عن الخمسة آلاف حاج في رقعة محدودة المساحة و40 حماماً فقط،  نصفها للرجال ونصفها للنساء. 

40 حماماً لحجاج يستيقظون في وقتٍ واحد، ويؤدون مناسكهم في وقتٍ واحد؟ خمسة آلاف حاج منهم المريض والضعيف وإلخ؟! وأربعون حمّاماً فقط مقابل 125 حاجاً للحمام الواحد!! يا حاج لك الله.. خمسة آلاف حاج يفترشون الأرض… في مفارش قديمة معتتة، مفروشة على القهر والإهمال واللامبالاة، تحكي عن خيبة وطن اسمه السودان، ضيعناه بلا مبالاتنا وموات ضمائرنا.. فما جدوى الكتابة… وخمسة آلاف حاج (طراحة) ولا مخدة ولا…. ولا بطانية، وكل ذلك كلفته فقط ثلاثون ريالاً للحاج، ويتبقى رصيداً للبعثة فيما بعد؟!! خمسة آلاف حاج يعانون ذات المعاناة.. ولعلّ من «حسن سوء» خدمات البعثة إنها لا تفرق بين رجل وامرأة، ولا بين صغير وكبير، ولا بين عالم وجاهل، فالكل عندها كالقطيع يحسب بحساب الرأس… نعم!! فقد قالوا لنا إن السلطات السعودية قد حددت ثلاثة أمتار مربعة للحاج الواحد، فحسبناها فإذا هي متر ونصف تزيد قليلاً أو تقلّ كثيراً!! ليحمل بعض الحجاج المفارش ويناموا خارج الخيمة، محتملين البرد والماء والأسن والتشرد… حتى إذا زار أحد المسئولين المخيم تمت مداراتهم بالداخل… و ..»كلو تمام يا سعادتك»!! وحين زارت د. سامية مخيمنا قام المسئولون وعمال النظافة بحد سواء بحملة لتسوية الأوضاع قدر المستطاع… ولو نظرت د. سامية تحت قدميها لرأت هناك د. سلامة حلمي سيد أحمد الطبيب الإنسان مفترشاً الأرض.. نعم!! هناك كان يرقد إنسان وترقد كرامة في الممشى؟!! ولولا أنهم أيقظوه وطردوه من «قارعة الطريق» الذي كانت تمر عليه، لولا ذلك لجاءت ووجدته مستغرقاً في نومٍ عميقٍ، يحلم بأن تكون لنا بعثة حج محترمة… ولكن إيقاظه هذا دمر الحلم ودمر إمكانية تحقيقه، وأشعل البكاء على الهوان الوطني وعلى سمعة الوطن وليس الهوان الفردي!!

وبعد تلك الواقعة والمجابهة مع سمو الأمير في عرفات… وبعد أكثر من ست ساعات انتظار في رأس البص في عرفات، وبعد أن تحرك البص وعبر بنا وادي عُرنة، وقبل أن ندخل للمزدلفة، نزلنا لنواصل المسير بأرجلنا فندخل مزدلفة ونصلي بها المغرب والعشاء جمع تأخير، ونبيت فيها ثم نصلي فيها الصبح ونغادرها بعد أن تسفر جداً، متوجهين إلى الجمرات عبر منى ثم التحلل والحلق، ثم طواف الإفاضة بمكة والعودة راجلين، لا راحلة ولا رد ولا رحلات ترددية، فقد تركنا لهم البصات وتركناهم وهم في ريبهم «يترددون»!! ثم أصبحت رحلتنا اليومية لرمي الجمرات عبر نفق المشاة رحلة من التواصل والمعرفة بأحوال الشعوب والبعثات الأخرى… السحنات المختلفة، اللغات المختلفة، جاءت كلها توحِّد الله وتعبده وتؤدي نسكها… وعلى النفق يقابلني اسم المؤسسة الأهلية لمطوّفي حجاج دول جنوب شرق آسيا، مطوفي وحجاج تركيا وأمريكا والدول الأوروبية، وحجاج الدول العربية… تقابلني حملة «الشايقي» من الكويت في كل يوم… «ها يالشايقي ناسك» متمسحين «في الراحة كل يوم ونحن كاتلانا المغسَة؟!»… وفي كل يوم أمر به أنادي أرواح شايق وكادنقا وشاويش وباسبار وعون وسوار ونافع… هي يالشايقي إنتا جنا منو فيهم؟ والجابك الكويت شنو؟! وتقابلني حملات مملكة البحرين، حملة الأرقم، حملة المواسم… وهي أفخم الحملات وأعلاها في البحرين، تقدم خدمات راقية حتى مستوى خمس نجوم في المدينة ومكة، والسكن يبعد أمتاراً معدودة فقط من الحرمين، بل وحتى في المخيم في منى مستوى خدمات خمس نجوم أيضاً؛ بوفيه مفتوح.. أزهار وعطور في المخيم.. وأسرّة وملاءات تبدّل يومياً… حملة المواسم كانت تقابلني كل يوم في مسيرها نحو الجمرات… رجالاً ونساءً وأعلام وإعلام … يدفعون ما قيمته ألف دينار بحريني أي ما يعادل عشرة آلاف ريال سعودي فقط… وأنا أدفع العشرة آلاف ريال سعودي وأنام على الجبال والتراب في مخيم يقل كثيراً عن مستوى «الكوشة»؟!! ذات يوم قابلتهم في نفق المشاة للجمرات في منى… كانت الحملة تسير إلى يساري وأنا أحاول تخطيها، فداست إحدى الحاجات على قدمي والتفتت لتعتذر… وجه صبوح باسم يتدفق رقة وحيوية، حاجة في ربيع العمر تزداد عن العشرين بقليل.. و{شفنا ملاك لابس بدن..} «الحاج» محمد أحمد سرور!! (هل تراه كان قابل حاجة من البحرين فقال ذلك؟!) وبلغة عربية سلسة ولسان عربي مبين قالت معتذرة: معليش أنا اللي «دعست» عليك!! أدعسي يا حاجة ساكت… هم يعني يلي داعسين علينا شوية؟! هذه أيام منى ـ الخير.. وليست أيام «منى الخير»، ولا هي بأيام غناء، فهذه أيام أكل وشرب وذكر الله… ولو كانت أيام غناء لرفعت عقيرتي بالغناء ولغنيت بلسان «منى الخير» أغنية أم بلينا السنوسي «لاقيتو باسم زهر «المواسم»… لاقيتو باسم زي ليلة القدري… لاقيتو باسم… بالبيَّ لو تدري؟! آه لو تدري… فهذا وجه لم «يتدرفس» في الأرض، وخد لم ينم على التراب، ووجه لم يقف في «صف الحمّامات» بالساعات الطوال!! لماذا أحج مع ليلى علوي بما يقرب العشرين ألف ريال والحج مع «زهر المواسم» بعشرة آلاف ريال فقط؟؟ فالحج هناك تنظمه منظمات أهلية حتى على مستوى المملكة، ويبقى عمل الجهاز الحكومي في ضبط الجودة والمواصفات…

وحكومة المملكة لا تتقاضى أي رسوم من الحاج حسبما تكتب في التأشيرة، ولكنها تطلب من الحاج أن «يتصلح» مع الصنايعية؟! والصنايعية هم المؤسسات الأهلية للمطوّفين… ذهبت إلى مكتب المطوف لاستخراج تصريح للسفر إلى جدة لزيارة مريض، فرفض الموظف المختص بحجة عدم وجود تصاريح، والتي هي عبارة عن ورقة عادية تتم كتابة اسم الحاج ورقم الوثيقة فيه ويتم ختمها بخاتم المكتب!!… ولو كنت في السودان لصورت له منها 4 باكتات.. دخان السجائر المتصاعد من أنفه وفمه غطى على بوستر إعلاني خلفه كُتب عليه «امتنع عن التدخين فأنت في البلد الأمين»… المطوفون والزمازمة ومكتب الوكلاء الموحّد ومكتب الإدلاء بالمدينة المنورة ونقابة شركات أصحاب النقل والذين يبلغ جملة ما يتقاضونه 941.5 ريال كلٌّ بديباجته، منها ثلاثمائة ريال قيمة الإقامة في المشاعر المقدَّسة!! وتتقاضى سودانير من الحاج ثلاثة آلاف ريال فهذه أربع آلاف ريال، وألف يتم تسليمه للحاج نقداً قبل مغادرته… فأين نصف المبلغ المتبقي؟!! كم تبلغ إيجارات الفنادق في مكة والمدينة وهي بهذا البعد «أكثر من ثلاثة كيلومترات عن الحرمين»؟! هل تستهلك السكنى من الحاج أكثر من مائتي ريال؟!! علماً بأن السرير الواحد يتم استعماله من قبل أكثر من ثلاثة حجاج قبل الحج وبعد الحج!!… كم عربة يتم إيجارها في الموسم من السوبر بان واليوروفان والكامري و(الجماسي) ليتم إيجار العربة بمبلغ عشرين ألف ريال؟!! وكم ثمن هذه السيارة؟! هل يزيد عن ثلاثين ألف ريال!! ومن المستفيد الأول؟ وكم هي الحوجة الفعلية من المركبات؟! وماذا تعمل هذه المؤجرة؟! أسئلة كلها تبحث عن أجوبة عاجلة… وهذه الأسئلة طرقت رأسي بعنف وأنا أجد مجموعة من الحاجات في المخيم وهن تائهات عن (سودان87) المجموعة الميدانية، ولما سألت عن أمير التائهين قيل لي إنه «راجل هميم»، ولكن «ما عنده عربية» تلم التائهين!! فلماذا إذن تؤجر السيارات؟!! ولمن تقرع الأجراس؟؟!

واحد وعشرون يوماً مكثتها هناك، أديت فيها ما أديت من مناسك، واختزنت فيها ما اختزنت من صور لأرشيف الذاكرة، واحد وعشرون يوماً كنت فيها كل يوم أموت قليلاً وأتفتت فوق آلاف التفاصيل كحجر رملي تضربه الأمواج… كان أمتعها منسكاً الجمرات… ففيه كنت أنفث عن نفسي برمي الجمرات والتي رأيت فيها الشيطان مجسّداً… جسداً له خوار في شيطان اسمه شيطان الإهمال وشيطان اللامبالاة وشيطان اللا مسئولية وشيطان موت الضمير وشيطان انعدام المحاسبة وشيطان… وشيطان… جلدتها بحجارة صغيرة وحصى، ولعنتها كما لعنت الشيطان الرجيم. ولو استقبل الحجاج من أمرهم ما استدبروا، لحملوا جمراتهم ورجموا بها البعثة، 49 جمرة للمتعجلين في اثنين وثلاثين ألفاً وخمسمائة حاج حصيلتها مليون وخمسمائة اثنان وتسعون ألفاً وخمسمائة جمرة… وأعتقد أنها كافية لتعلمنا «أأيقاظ أمية أم نيام»؟!! مليون وخمسمائة ألف حجر في مقر البعثة كانت كافية لتعرية الجرح بعيداً عن الشرائط الملوّنة وأوراق السليوفان التي يغطي بها الجرح وهو متقيح بالداخل!! ولكانت كافية لأن يخرج الجرح عارية بلا إحرام مثلما هدد ذلك الأمير على صعيد عرفات، فما أجمل الحقيقة وهي عارية مجردة من كل زيف!! وما أجمل الحقيقة حينما تسفر عن نفسها وتكشف زيف وخداع جلسات التقييم التي تعقد بعد نهاية كل موسم، فلا نحس بأثرها في المخيّمات ولا في الخدمات.

عزيزي وزير الحج والأوقاف:

هذه مظلمتي إلى يوم القيامة فمن يشتريها؟! ومن يشتري مظالم اثنين وثلاثين ألفاً وخمسمائة حاج؟! اللهم إني قد عفوت عن كل ما لاقيت في سبيلك، فمن يشتري مظالم من وقفوا على صعيد عرفات ودعوا على البعثة؟! قد ينبري غداً من يدافع عن البعثة ويجادل عنها، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً؟

ألا هل بلغت؟… اللهم فاشهد.

 

شارك التحقيق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *