
بقلم: آمنة عبدالهادي خير الله
• بينما كان سابحًا في أفكاره كسر حاجز الصمت صوتها الرنان قائلة: الكتاب، فرد بسرعة ماذا؟
خذه إنه لك..!
ناولته الكتاب، وعندما مد يده حاول بقدر المستطاع أن يلمس أناملها، لكنها أدركت ذلك بحصافتها فسحبت يدها بسرعة؛ جعلت أصابعه تعض نفسها ندمًا على عدم سرعتها لتظفر بها.
أطال النظر بالغلاف، اختطفت عيناه العنوان «فتاة الدُخان»، ودون أن يشعر تحركت شفتاه فتساقطت الكلمات، وسأل مستفهمًا رغم أنه يخشى أن تفهم سؤاله قِلة صبر وإعلانًا منه بأنه لن يقرأ المكتوب: أهو عن الحرب؟!
صمتت برهة وأردفت لا، لم أكتب عنها ولن أفعل مطلقًا، سألها ولماذا؟
ردت: أنا شخص لست من أولئك الذين يجيدون ارتداء معاطف الآخرين، ولست أحسن من يتحدث بلسانهم.
ذروة مواساتي للبشرية هي أن أبكي لبكائها، لكن أن أكتب نصًا لشيء لم أعشه من وجهة نظري كذبة عظيمة لن أقدم عليها، لقد اندلعت الحرب في شهر رمضان، في ذاك اليوم تأثرنا جميعنا، تابعنا الأخبار، امتنعنا عن مشاهدة برامجنا المفضلة على التلفاز، لكن وعندما حلّ المساء جلسنا وتناولنا إفطارنا كما العادة، تبادلنا النكات على طاولة الطعام، واحتسينا المشروبات المثلجة، أمسكت هاتفي أرسلت لمحبوبي رسالة محتواها «مساء الخير»، وأرفقت معها قبلة وقلباً أحمر (لاحظت اضطرابه، وبدا لها أنه يرتجف، كادت عيناه أن تدمعا لكنه تماسك) تابعت: بالطبع ذكّرني القلب الأحمر بالدماء التي أُهدرت بغير حساب ولا تزال تُهدر، لكني تناسيت، ومن ثم تبادلنا أحاديث العشاق، ومرت الأيام بل والشهور واهتمامنا بالحرب وخسائرها بدأ يقل شيئًا فشيئًا، ففي الأيام الأولى كانت كتاباتي على الفيسبوك كلها تحكي عن الحرب وتطوراتها، مرت الأيام وما عدت أهتم للأمر بعدها، فكيف تريدني أن أكتب عن الحرب وأنا لم أعِش تفاصيلها، لم أستيقظ على صوت الدبابات، ولم أفقد عزيزًا في خضم تلك المعركة، بل ولم أبكِ بجوار منزلي، ولم أغادره مرغمة، ولم أستخدم الساتر يومًا.
الكتابة عن الحرب من حق أولئك الذين عاشوا تفاصيلها، دعوهم ليمارسوا حقهم هذا، لعل صراخ الحروف يجهض الألم الذي نما وكبر فيهم، لا تنازعوهم الشعور .
إن أفضل من يكتب عن الألم هو المتألم نفسه، ستنثر أناته على الورق نوتات تعزف سمفونية تغويك لتستشعر لذة الألم
قاطعها بذهول: وهل للألم لذة؟!
أجابت بحماس:
بالطبع أستشعر لذة الألم، إن للألم لذة عنيفة تجعلك تهمس في أذن الحياة بنشوة وبفم تزينه الدماء كحمرة شفاه غانية، مثيرة! تقترب من أذن الحياة لتقول بتحدٍّ هل من مزيد؟!
اغتصب الموقف ابتسامة إعجاب من شفتيه. ثم أردف امممم «فتاة الدُخان» حسناً دعيني أخمن أهو لفتاة تدخن بشراهة؟!
لم تتمالك نفسها ودوّت ضحكتها المجلجلة لا، ليس الأمر كذلك.
أضاف هل أنت ممن يرون في التدخين مسألة أخلاقية؟!
امممم عضت شفتها السفلى بغنجها المعهود، وقالت: لا ألا ترى عبارة «التدخين ضار بالصحة» المكتوبة على علبة السجائر، هو كذلك، الأمر صحي لا أخلاقي البتة. السيجارة غانية تمضي جُل وقتها بين الشفاه تلك هي مشكلتها، تمنح نفسها للجميع الطبيب، المعلم، رجل الأعمال، رجل القانون… إلخ هي لصفوة المجتمع وكذلك للأشخاص العاديين، ولم تسلم من الحثالة أيضاً.
أما عما تحمله بين يديك فهو عن فتاة من رحم المواجع خرجت، امتطت صهوة الأيام، وغرست أصابعها بوحشية في ظهر الحياة، كانت مغناجة شديدة التأثر، تتمايل طربًا إذا ما مستها يد السعادة وإن مرت سريعة، كانت بنقاء وطهر مريم؛ لكنْ لديها جانب قوي آخر يسيطر عليها، فتاة لعوب، تجيد فن الإيحاء، هي كالنار يلازمها الدخان إذا ما حاولوا إخمادها أدمعت العيون وضيقت الخناق على الصدور.
اتسعت عيناه إعجابًا، وشرع يحرك نظارته على عينيه ثم همس: أيمكنك تركي أقترب من تلك النار؟
أرغب في الدفء بقدر رغبتي في أن أختفي في الدُخان؟!
ابتسمت وأجابت بغنج كعادتها: حسنًا لك ذلك.. تابعت سيرها وأتبعها هو يحمل كتابه بيمينه وقلبه بيساره، يجر الأمل خلفه جرًا.
شارك المقال