
سارة عبدالمنعم
كاتبة روائية
• … ورفيق يلقي على صباحي ابتسامة؛ وحده من ظل وصاله وصلاً لا ينقطع، وإن تماديت في تمنعي عن الكتابة، فلم أراسله. ليته يعلم أن صباح الخير تعني حقاً أن صباحنا خيراً، بما أن هناك أحدٌ يتمنى لك ذلك ويمنحه لصباحك ..
في الغربة لا شيء يجمعنا سوى هاتفٍ محمول، وضحكاتٍ مرسومة، ووجهٍ أكثرت من فيضها دموعه، فصرنا حين نحزن من البلاد نحاكي دموعاً أجاد من رسمها بشيء من الهزل، وحزن ينافق!
ليتني ما تركت البلاد منذ خمسة أعوام مضت. كنت في بلادي ملكة البهجة ومتعة الحياة. رغم أنف كل حزن، كانت ابتسامتي أجمل ما أملك، عطاء لا ينفد. منذ خمسة أعوام كنت في أحضان بلادي وأخي، ومنذها صرت متسولة عطف وحنان، فشتاء الغربة يَشِلُ عزمك إن نويت فيه الخروج، وليل الغربة كما قال الشاعر (الليل يبقى ليل). حقا ليل الغربة واحده بثقل ألف ليلة من أيام الله.
يهمني الصباح، نسمات باردة؛ سكون .. وبداية حركة، وزقزقة العصافير، ودموع المطر. وشمس صباحها لا خير فيه إن غاب عني وجه حبيبي، وحضن بلادي. ترى إلى أين ستذهب أحلامي؟! وما قصة العُمر الذي تقتات منه أيام الغربة وأعوامها؟! يا إلهي! أين ضاع وطني وأمسه مني؛ وضعت بيقينِ أنني لن أجده كما كان منذ خمسة أعوام. أخشى أن أموت دونه، وأخاف من أن أدخل إليه وأجده وطناً مقطعة أطرافه من خلاف، فكل صُنَّاع الحرب فيه من بني رحمه!! تباً للبلاد! إندلقت قهوتي .. قلتُ «خيراً»، كجدتي. وأعلم أن أصابعي المرتجفة غضباً، هي من دفعت قدح القهوة على فعلته.
صباحُ الغربة صباحُ حالي، إذن هو الاجمل. وبلادى صارت بنت ذاكرة. صورة جميلة لن نحتمل رؤيتها بوجه دمار قبيح. إذن، لن نرى مطار الخرطوم قريباً، وربما يختار البعض قرار نسيان الرجوع إلى الأبد.
متى سأعود؟! وإلى ماذا؟! لا شيء لي فيه. بلاد، كعادتها، سارقة أحلامنا، ولكن تعدى الأمر ذلك. صرنا بلا مقتنيات وأموال حصاد اغتراب واجتهاد. سرقوا كل شيء. سرقوا حتى ابتسامتي. من أين جاءت البلاد بهذه القسوة؟! صفقنا كثيرا في أيام كانت ميليشيا المتمرد الحالي مصدر قوتنا. هللنا لهم، وكبروا معنا، ثم ذبحونا جميعا. والآن حان دور التصفيق لحامي البلاد، لا أعلم أين كانوا حتى أصبح الأوباش في بيوتنا يسكنون، بل أين كانوا حين صفقنا لهم؟ ولماذا أشتم فيكم دماء يوم حزين كانت دماء الأبرياء في ساحتكم، فأي إعدام يكون عقابا لمن يحلمون الخير لبعضهم، والحب في الله، ومن أجل البلاد؟ تبا وعدت أمي أن لا أستمع للساسة، وأن لا أصفق لحامل وعُود وسلاح، وأن أشطب من ذاكرتي أنه كان لي بالأمس حياة أجمل. لكني، لن أجدها وإن عادت حلاوتها بالغربة. وذاكرتي، أظنها، لن تكمل الأربعين عاماً معي، وهى نشطة، وليس النسيان بقسوة التوهان. أتمنى أن أفقد من ذاكرتي صور موت، ودماء، وجراح كثيرة. أظنني الآن مصاب صباحي بحمى الشوق لدار بعيدة. صنعتُ في غربتي غرفةً تشبه تلك التي في دياري البعيدة، ولكن وجدت الفرق في أن كل شيء هناك يحمل قيمة، فرحاً، وراحة، لا ثمن يوازي قيمتها.
تعبت. الوقت للقهوة. وصباحي خير، وأنا منشغلة عن البلاد، فلم أجد سوى الرحيل عنها، وعن أهل الحب والصحبة فيها. قدري فراق كل جميل. كان لي في شارع بيتنا شابٌ جميلٌ، كنت رفيقة دروبه، وكنا دائماً نتقاسم البهجة والضحكة. لكنه في بلد الحرب فقد ذاكرته، وأنا. وسمعت أنه استعادها في بلادٍ عربيةٍ غير بلاده، ولكنه لم يختبر رجوعها بلقاء ينفض رهق فكر وجسد انتحل من التوجس والترقب والخوف من طول الانتظار.
صدقا، لست بعاشقة للألم وتجديد ذكراه. لا حزن سيفاجئني بعد ما فعلته بنا البلاد!
شارك المقال