(عُشرة الأيام): حين يتقاطع الفقد العاطفي مع الخذلان الوطني (فيديو)

187
الفنانة فاطمة عمر

(قراءة رمزية لأغنية عثمان حسين في زمن الحرب السودانية)

Picture of بقلم: أ. د. فيصل فضل المولى

بقلم: أ. د. فيصل فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

مقدمة

• أغنية “عشرة الأيام”، التي كتب كلماتها الشاعر الراحل عوض أحمد الخليفة، ولحّنها وأدّاها الفنان الراحل عثمان حسين، بمشاركة لاحقة في الأداء من فاطمة عمر، تُعد من العلامات البارزة في تاريخ الغناء السوداني. إنها ليست مجرد أغنية رومانسية تُرددها الألسن في لحظات الحنين، بل قصيدة غنائية تجسّد مدرسة فنية كاملة قامت على الرقة الموسيقية، العمق الشعري، والصدق العاطفي الذي يلامس القلوب.
ينتمي هذا العمل إلى عصرٍ ذهبي في الأغنية السودانية، حيث لم يكن الفن مجرد ترف أو ترفيه، بل وسيلة للتعبير الوجودي، والحفر في طبقات الوجدان السوداني. حمل عثمان حسين صوته كما يحمل العاشق قلبه، وجعل من الموسيقى وطنًا بديلًا، ومن الكلمات ملاذًا للروح.
لكن في زمن الحرب، تنقلب المعاني، وتتشظى الرموز. تصبح الأغاني العاطفية مرآةً خفية لوجع الوطن، تتسلل منها رسائل لم تكن تقرأ سابقًا إلا بوصفها نداءات حب شخصية، لكنها اليوم تُقرأ كنداءات وطن مجروح، كأناشيد لخسارات أكبر من الحب، أعظم من الفقد العاطفي الفردي.
في هذا السياق، تتحول “عشرة الأيام” إلى نصٍّ تتقاطع فيه الذاكرة العاطفية مع الذاكرة السياسية، ويتماهى فيه الحبيب الغائب مع الوطن المنكوب، ويغدو الفراق في القصيدة رمزًا لفقد الحلم الجماعي بالتغيير، بانهيار وحدة الصف، وبعثرة ما تبقى من الثقة بين المواطن والدولة، وبين الشارع والنخبة.
هكذا يمكننا أن نعيد قراءة “عشرة الأيام” اليوم، لا كأغنية شجن رومانسية فحسب، بل كنصٍّ فني-سياسي يتجاوب بشكل مذهل مع انكسار الحلم السوداني، وانعدام التوافق السياسي، وتفتت القلب الجماعي لشعبٍ أنهكته الخيبات وتُرك لمصيره وسط رماد المدن المنهارة.

المحور الأول: الحنين إلى زمن الوحدة – “عشرة الأيام ما بصح تنساها”
هذه العبارة تُفتَتَح بها الأغنية بنداء قوي وموجع:
“عشرة الأيام ما بصح تنساها… كأنه ما حبيتك وكأنه ما عشناها”
لو قرأناها في سياق الوطن، فهي ليست مجرد “عِشرة حب”، بل:
• رمز لعشرة الأقاليم، عشرة الأعراق، عشرة الثوار في ساحة الاعتصام، عشرة المدن التي توحدت تحت حلم الدولة المدنية.
• لكنها اليوم “كأنها لم تكن”، كما تنكّر البعض لدم الشهداء ولأيام الثورة المجيدة.
إنها صرخة وطن في وجه الذين أنكروا تاريخه، مزّقوا نسيجه، وتناسوا عهوده.
المحور الثاني: التنكّر والخذلان – “ليه تجفى دون أسباب؟”
“ليه تجفى دون أسباب… من غير عتاب أو لوم”
تُصبح هذه الأبيات في زمن الحرب بمثابة سؤال وجودي للوطن، للنخب، للقيادات:
• لماذا غاب الحوار؟
• لماذا ساد الصمت، وتحوّلت الخلافات إلى رصاص؟
• من جفا من؟ المواطن أم السياسي؟ القيادة أم القواعد؟
“دون عتاب” هنا هو غياب الشفافية والعدالة الانتقالية، وعدم المحاسبة، وكأننا نطوي الصفحات دون مواجهة أو إصلاح.
المحور الثالث: انهيار الثقة والروابط – “هان ليك فراقي خلاص…”
“هان ليك فراقي خلاص… وانا برضى حولك أحوم”
هل هناك وصفٌ أبلغ للمواطن السوداني في هذا الخراب؟
فقر، نزوح، جوع، قصف، وتيه… لكنه لا يزال “يحوم” حول الوطن، لا يغادره، لا يكرهه، بل يظل في مدار العشق رغم الجراح.
بينما الآخرون – قادة الحرب، أطراف النزاع – اختاروا الهجر، وتحوّلوا إلى غرباء عن نبض الناس.
المحور الرابع: من الحُلم إلى العدم – “بعدك أماني هواي… جنيته عدم”
هنا تصل الأغنية إلى ذروة الانكسار:
• “أماني هواي”: ترمز إلى أحلام الدولة، المواطنة، العدالة، التنمية
• “جنيته عدم”: وصف دقيق لحال البلاد الآن. غياب كل شيء: الدولة، القانون، الأمان، الرؤية
هذه العبارة تحمل في عمقها موت الفكرة السودانية الجامعة، وولادة فراغ كبير يبتلع الناس بلا رحمة.
المحور الخامس: الزمن الضائع وظلم الظروف – “لكن ظروفك أبت… قست ظروفي علي”
الوطن والمواطن كلاهما ضحية الظروف.
لكن من الذي صنع هذه الظروف؟
هل هي مجرد “أقدار” أم تواطؤ سياسي، دولي، إقليمي؟
هل قست الظروف على الجميع بعدالة، أم استهدفت الفقراء والضعفاء فقط؟
هذه الأبيات تفتح الباب لمساءلة عميقة عن الدور الخارجي في إشعال الحرب، والفشل الداخلي في معالجتها.
المحور السادس: من العشق إلى العدم – لحظة الندم والاستبصار
في هذا المقطع من الأغنية، يبلغ النص ذروته الشعورية، حيث يتحول الحنين إلى انكشاف داخلي يعري الخسارة ويعترف بالأوهام. يقول الشاعر:
“بعدك أماني هواي … بعدك جنيته عدم
ولا عرفت صديق … لقلبي غير الهم
كم غيري يشدو سعيد … وأنا في هواك مغرم
وريني إيه ضراك … لو كان صبرت شوية
واسلم من الأوهام”
هنا تتجسد حالة وطنية بامتياز:
• فـ”أماني الهوا” تمثل أحلام الثورة والتغيير، التي بعد خذلانها لم تجلب سوى العدم في الاقتصاد، والأمن، والمعنى.
• و”الهم” صار رفيق المواطن الوحيد، إذ لا صديق له سوى الوجع اليومي والخذلان المتكرر.
• بينما تسير شعوب أخرى نحو التعافي، يبقى المواطن السوداني مغرمًا بوطنٍ لا يبادله الحب، عالقًا في دائرة عشق لا يثمر.
• وفي النهاية، يطرح النص سؤالًا موجعًا:
“ما الذي كان سيضركم لو صبرتم قليلًا؟”
في إشارة رمزية إلى القيادات التي استعجلت الحرب بدل التوافق، والجهات التي فضّلت الانقسام بدل المصالحة.
وتأتي عبارة “واسلم من الأوهام” كخاتمة واعية، فيها اعتراف بأن ما خُيّل أنه حب، أو عهد، أو وطن مستقر، لم يكن سوى حلم زائف… وأن النجاة كانت ممكنة، لو توفّر الصبر، أو الإخلاص.

خاتمة تأملية

أغنية “عشرة الأيام” ليست فقط نشيدًا للعاطفة، بل صرخة ناعمة لوطنٍ ينادي أبناءه الذين هجروه، تنكّروا له، أو أذنبوا في حقه دون عتاب. إنها نص شعري غارق في الحب، لكنه في سياق الحرب السودانية يتحول إلى مرثية وطنية شاملة، تحمل في طياتها خيانة الوعود، واغتيال الأمل، وحنينًا جارفًا لماضٍ قصير لكنه كان نابضًا بالوحدة والاحتمالات الجميلة.
في ظل هذا الواقع السوداني الممزق:
• يصبح الحبيب الغادر هو السياسي أو العسكري الذي نكص عن عهوده، الذي اختار طريق الحرب والمكاسب على حساب الدم والشعب.
• ويغدو العاشق المتألم هو المواطن البسيط الذي ظل يدور في فلك الوطن، حتى بعد أن جفاه وتركه في مواجهة الجوع والنزوح والمجهول.
• وتتحول “العِشرة” إلى استعارة كبرى للوطن: عشرة المدن، عشرة الثورة، عشرة الجيران والرفاق، عشرة الحلم السوداني الذي تمزق بين البنادق.
وما بين الجفاء والحنين، يظهر صوت الأغنية كمن يريد إنقاذ الذاكرة، تذكيرنا بأننا كنّا يومًا معًا، وأن هذا الحب — رغم الخراب — ما زال يعيش في القلوب التي لم تُقْسِها البنادق.
إنها أغنية عن الحب، نعم، لكنها أيضًا دعوة للتصالح مع الذات الجماعية، مع الجرح، مع الوطن، ومع الحلم الذي لم يمت بعد — بل ينتظر من يُعيد له الإيمان.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *