

بقلم : زين العابدين الحجّاز
• ولد عوض الكريم محمد هندي عام 1880 م فى مدينة بربر فوالده من أصول مغربية هاجر الى ليبيا ثم أقامت أسرته فى صعيد مصر . كان الضابط محمد هندى والد عوض الكريم ضمن جيش محمد على باشا الذى أتى الى السودان وأنجب ابنه في مدينة بربر. هاجر عوض الكريم من بربر الى أم درمان في مطلع القرن العشرين وامتهن حرفة الصياغ التي تعلّمها من الأرمن والأغاريق . تلقّى العلم على يد الشيخ ود البدوى في بربر كما درس على يد الشيخ محمد عبد الماجد وقد جمع بين الحرفة و العلم و الأدب والفن فكان دكانه ملاذا للفنانين والعلماء والادباء . عمل صائغاً بسوق أم درمان في نفس المكان الذي يعرف الآن بشارع الصياغ و لم يكن عمله وقفا على الصياغة فحسب بل امتد الى الزخرفة والتصميم وخراطة العاج والأبنوس . سكن بجوار سوق أم درمان في حي الركابية فكان آية في الكرم وفعل الخيرات وكان يقوم بتجهيز طعاماً كثيراً في شهر رمضان ويضعه في الطريق فإذا انصرف الناس من السوق وقت الإفطار اعترض طريقهم وعزمهم على الإفطار معه وكان الفقراء والعجزة والمساكين من أهل السوق يأتون أيضاً لمائدته اليومية . ملأ عقله بالمعرفة وأينع روحه بالإيمان والإحسان وعكف على القراءة والمطالعة وكما كان صائغا للذهب والفضة كان صائغا للعلم و الأدب .

ولما ملأت سمعته الآفاق تهافت عليه في دكانه محبو الفنون من الاجانب و المواطنين والعاشقين للجمال والإبداع . وهو الذى طعّم سيف الإمام محمد أحمد المهدي بمئة أوقية من الذهب الخالص عندما قدمه ابنه عبدالرحمن المهدى الى الملك جورج الخامس ملك انجلترا عام 1919 . عرف بوطنيته وتميّز بابتعاده ونفوره من المستعمر وقد أشاد به المجاهد الوطنى حاج الشيخ عمر دفع الله مفجّر مظاهرات عام 1924 فأطلق عليه لقب (الوطنى العبقري المخلص) . كان يستورد كتبه وصحفه ومجلاته من مصادرها في مصر والشام والعراق والمغرب والهند . قرأ كثيرا و ناصر الدعوة الإسلامية واليقظة العربية واهتمّ بالقضايا الوطنية و الحوادث والوقائع والتقلبات التي حدثت في السودان قديماً وحديثاً حتى سنة 1944م فجمع تلك الأشتات فى سفره الرائع (مختارات الصائغ) فكان مرجعا فى أحداثه ورجاله وأعلامه و دائرة معارف كانت فريدة فى عهدها مقارنة بالكتب التى ظهرت فى السودان فى تلك الحقبة .
أثّر كتاب (مختارات الصائغ) فى مسار الفكر السوداني فهو كتاب متعدد الأغراض والموضوعات و جامع لصنوف المعارف والآداب وقد اشتمل على أبواب عديدة من التفسير والفقه والحديث والتصوف والشعر والحكم والأخبار والتراجم والتاريخ والطب والأخلاق وغيرها وهو بهذا يصنف ضمن ما يطلق عليه ( كتب المحاضرات ) ولا يزال التصنيف في هذا النوع من الأدب مستمراً حتى اليوم , والذي يميّز كتاب ( مختارات الصائغ ) من كتب المتقدّمين هو المزج بين النقول والتجارب الذاتية الأمر الذي لم يفعله أكثر المتقدّمين فجاءت حكاياته وأخباره وأشعاره متفردة لا شبه بينها وبين تلك الأخبار المكرّرة في كتب المتقدمين . وقد جمع الصائغ مادة كتابه من ثلاثمائة وستين كتاباً من مختلف الفنون والأغراض كما هو مبيّن في غلاف الكتاب الداخلي ولم يكتف بذلك بل توسّع في الأخذ من الصحف والدوريات التي كانت تصدر في زمانه وأضاف عليها من مجرباته وملاحظاته الشيء الكثير فجاء الكتاب آية في التنسيق والترتيب و أعجوبة في العرض والتناول و مثقلاً بالفوائد التي قلّ أن يجدها القارئ مجتمعة في كتاب واحد كل ذلك بلغة سهلة تصل في بعض المواضع إلى التعبير بالعامية .

تحدّث عوض الكريم عن نفسه في أكثر من موضع من كتابه حين روى تجاربه ورحلاته ولقائه بأعيان السودان من حكّام وقوّاد وأدباء وشعراء وغيرهم وربط الأحداث التاريخية بسيرتهم الذاتية فهو يقول في مقدمة الكتاب : ( أنفقت في جمعه نفيس الليالي التي هي عندي أثمن من اللآلئ .. هجرت لذّاتي في ليلي أما نهاري في مكابدة حرفتي .. جاهدت بجمعه اثنا عشر عاماً اكتحلت بلياليها السهاد وأقللت الرقاد وتصفحت لأجله أضخم المجلّدات وأحسن المؤلّفات بعد كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام ، مع التبرع بألفي ريال جمعتها من كدّي وعرقي لطبعه وانتشاره في العالم الإسلامي ، والمؤلفات التي ابتعتها أو استعرتها لا تقل قيمتها عن ألفي ريال وأقدّر أتعابي فيه بعشرة آلاف ريال هذه جميعها أدّخرها عند الله تعالى ليوم الثواب والحساب .. والله شاهد على ما أقول أن تلك الليالي هي زهرة شبابي وملعب أترابي ولو كان عملي فيها لغير الله لاستبدلتها ـ يعلم الله ـ بعشرات الألوف من الجنيهات فضلاً عن الريالات وقد ابتدأت به وأنا في السابعة والعشرين من عمري و قاربت الأربعين حين شرعت في تبييضه وأنا الآن بحمده تعالى مسرور بعملي مغتبط بتوفيقي أترنح طرباً بما وفّقني مولاي إليه ) .
ومن محاسن كتاب المختارات تلك الفصول التي عقدها الصائغ عن الطب والمجرّبات الشعبية فقد أورد منها طائفة مع ذكر لقاءاته بأطباء ( اسبتالية ) أم درمان من الخواجات والمصريين والأحاديث التي جرت بينهم في الطب ومن أراد أن يؤرخ لمستشفى أم درمان الحالي فلن يجد أفضل من (مختارات الصائغ) مرجعاً له .
وعلى غرار كتب المتقدّمين فإن كتاب المختارات لم يخلو من بعض المجون المحبب إلى النفس لكن مؤلفه كان دائم الاستدراك على ما ينقله بورع شديد وتديّن ملحوظ . قسّم المؤلف كتابه إلى ثلاثة أجزاء مستقلة في كل قسم فهرس خاص بمحتوياته وللكتاب طبعتان الأولى سنة 1925م بمطبعة التوفيق الأدبية بالقاهرة والثانية سنة 1949م بمطبعة زهران بالقاهرة أيضاً .

قال الكاتب المصري المعروف نجيب محفوظ في حوار تلفزيوني عقب حصوله على جائزة نوبل للآداب سنة 1988م إنه تأثر في تكوينه الأدبي بكتاب (مختارات الصائغ ) للكاتب السوداني عوض الكريم هندي . أديب عالمي في قامة نجيب محفوظ يقول هذا الكلام عن الكتاب ويشهد أمام الملايين بأن الذي شكّل بداياته الأدبية وقاده إلى جائزة نوبل رجل سوداني الجنسية وأدباء السودان ودولة السودان بأجهزتها الثقافية لم يلتفتوا ولم يسمعوا لا بالرجل ولا بكتابه بعد !! أليس هذا أمر محير حقاً ؟ .
عائلة عوض الكريم محمد هندى ضمّت العديد من المتفرّدين فإبنه الأديب هندي عوض الكريم أفنى زهرة حياته فى جمع وتصنيف الأغانى السودانية في كتاب وتم طبعه وتوزيعه في أوآخر الخمسينات فكان رائدا في ذلك المجال لذا فهو يستحق بكل جدارة لقب (أبوالفرج السوداني) !! . وابنه البروفسير عبد الشكور عوض الكريم بكلية الهندسة في جامعة الخرطوم الذي زاملني الدراسة في المرحلة الوسطى و الثانوية و الذى بعزمه و مثابرته استطاع أن يقفز من أسفل قائمة أقرانه التلاميذ الي أعلاها . لن أنسى عندما كنت أصطحبه الى سينما الوطنية اْم درمان وهو يحمل كتاب مادة الجبرا و أثناء استراحة الفيلم يفتحه و يواصل مذاكرته في مشهد فريد قلّ ما نجده في دار للسينما … له منّي عاطر التحايا و لبقية الأسرة الكريمة بما فيهم المهندس توفيق حسين ورمزى حسين وكيلانى و الطبيب عبدالجليل الصائغ والدكتورة فاطمه هندى . توفّى عوض الكريم محمد هندي عام 1959 م رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وجعل البركة فى ذريته وأهله .
لم يبق لنا بعد هذا الكلام الموجز عن هذا الأديب الصائغ إلا التنقيب عن المجهولين والمغمورين من أدبائنا الذين ضيّعهم الزمان فربما نكتشف في سوق أم درمان أدباء عطّارين أو جزّارين في قامة الشيخ عوض الكريم الصائغ .
شارك المقال