عند بلوغ الستين الدول المتقدمة تستثمر عقولها بينما العالم العربي يرمي عقوله في المزبلة

131
نجيب يماني

نجيب عصام يماني

كاتب صحفي سعودي

• سؤال: هل بلوغ الستين يعني توقف العطاء ونهاية الحياة؟ ولماذا نستغني عن عطاء العلماء والمفكرين بينما نسمح لهم بالعمل في المجالات السياسية.. العالم يحترم علماءه ويوظف علمهم وخبرتهم، بينما نحن في العالم العربي نرميهم في المزبلة، ونمنعهم من مواصلة العطاء، ولا ندع لهم إلا لعب النرد في المقاهي، أو اصطياد السمك، أو ملاعبة الأحفاد والرجوع إلى الذكريات..
في الدول المتقدمة، لا يعد العمر حاجزاً أمام الإبداع والإنتاجية، بل بالعكس، يُنظر إلى الخبرة المتراكمة على أنها كنز يجب الاستفادة منه. بينما في العالم العربي، نجد أن بلوغ سن التقاعد، خصوصاً في الأوساط الأكاديمية والمهنية، يمثل نهاية للعطاء، بدلاً من أن يكون مرحلة لجني ثمار الخبرة والمساهمة الفعالة. في هذا البحث، نقارن بين كيفية تعامل الدول مثل الولايات المتحدة والصين واليابان مع علمائها ومفكريها الذين تجاوزوا الستين، وبين الواقع في الدول العربية، حيث يتم تهميشهم، أو دفعهم نحو العمل السياسي، أو التقاعد السلبي.

أمريكا: حيث العمر قيمة مضافة

في الولايات المتحدة، يعتبر التقدم في العمر دليلاً على النضج والخبرة، وليس عائقاً أمام الاستمرار في العمل. العديد من العلماء والباحثين يواصلون عملهم حتى بعد الثمانين، بل إن بعضهم يحصل على جوائز نوبل في أعمار متقدمة. على سبيل المثال:
ألبرت أينشتاين استمر في أبحاثه حتى وفاته عن عمر يناهز 76 عاماً.
جون ب. جودإناف، حصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2019 عن عمر 97 عاماً.
هنري كيسنجر، المفكر والدبلوماسي الشهير، ظل يقدم تحليلاته السياسية والاستراتيجية حتى التسعينات من عمره.
الحكومات والشركات الأمريكية تحرص على الاستفادة من العقول الناضجة، إذ تعمل العديد من الجامعات على إبقاء كبار الأساتذة ضمن هيئاتها الاستشارية والبحثية.

اليابان: ثقافة احترام العمر والاستفادة من الحكمة

اليابان، الدولة التي تعاني من شيخوخة سكانية متزايدة، نجحت في تحويل هذه الظاهرة إلى فرصة. الحكومة اليابانية تدعم استمرار الأكاديميين والعلماء في العمل لسنوات طويلة بعد سن التقاعد الرسمي. كما يتم تبني برامج لإعادة توظيف المتقاعدين في مجالات استشارية وصناعية.
على سبيل المثال، جامعة طوكيو والعديد من المؤسسات البحثية اليابانية تمنح الأساتذة والعلماء أدواراً قيادية واستشارية بعد التقاعد، بل وتوفر برامج للاستفادة من خبراتهم في تطوير التكنولوجيا والتعليم.

الصين: الشيخوخة ليست نهاية بل بداية جديدة

في الصين، تُعد التجربة والخبرة عوامل أساسية في تحديد قيمة الشخص داخل المجتمع. لا يتم إجبار العلماء والباحثين على التقاعد القسري، بل تتم الاستفادة منهم في وضع السياسات العلمية والاستراتيجية. على سبيل المثال:
جونغ نانشان، عالم الأوبئة الشهير، قاد الصين خلال جائحة كورونا وهو في الثمانينات من عمره.
الحكومة الصينية تتبنى سياسات تدعم استمرار الأساتذة في البحث والتطوير بعد الستين، بل وتوفر برامج استشارية للمتقاعدين للاستفادة من خبراتهم في قطاعات متعددة.

العالم العربي: التقاعد الإجباري وتهميش العقول

على العكس من ذلك، نجد أن العالم العربي يتبع نهجاً صارماً فيما يتعلق بسن التقاعد، خاصة في الجامعات والمؤسسات البحثية. بمجرد أن يبلغ الأستاذ الجامعي الستين، يُطلب منه مغادرة وظيفته، حتى وإن كان لا يزال قادراً على العطاء. هذا يؤدي إلى:
فقدان كم هائل من الخبرات دون أي استفادة منها.
حرمان الأجيال الجديدة من التوجيه والإرشاد الذي يمكن أن يقدمه الأكاديميون المخضرمون.
لجوء العديد من المتقاعدين إلى الأعمال السياسية، أو التفرغ للحياة الاجتماعية دون استثمار علمهم.

الأسباب والتداعيات

هناك عدة أسباب وراء هذا الواقع في الدول العربية:
1- البيروقراطية والتشريعات الجامدة، التي تفرض سناً موحداً للتقاعد دون مراعاة الكفاءة.
2- غياب ثقافة الاستفادة من الخبرات، وعدم وجود أنظمة تسمح للأساتذة بمواصلة العطاء في أدوار استشارية أو بحثية.
3- ضعف الاستثمار في البحث العلمي، مما يجعل الحكومات غير مكترثة بالاحتفاظ بالكفاءات.
هذا النهج يؤثر بشكل مباشر على الإنتاجية العلمية والتنموية في الدول العربية، حيث يتم فقدان الكوادر العلمية قبل أن يتم استثمار معرفتها بالشكل الصحيح.

نحو نموذج جديد للاستفادة من العقول

لتغيير هذا الواقع، يمكن تبني عدة استراتيجيات:
1- إعادة النظر في قوانين التقاعد، بحيث يمنح الأكاديميون والباحثون خيارات مرنة للاستمرار في العمل.
2- إنشاء برامج استشارية، تمكّن المتقاعدين من المشاركة في المشاريع البحثية والتعليمية.
3- تعزيز ثقافة الاستفادة من الخبرات، من خلال تشجيع القطاعين العام والخاص على توظيف العقول الناضجة في أدوار استراتيجية.
في الوقت الذي تستثمر فيه الدول المتقدمة في علمائها حتى آخر لحظة من حياتهم، نجد أن العالم العربي يخسر خبراته العلمية بمجرد وصولها إلى سن معين. إن تغيير هذه الثقافة ليس مجرد خيار، بل ضرورة تفرضها متطلبات التنمية والتطور العلمي. فهل آن الأوان لإعادة النظر في مفهوم العمر والإنتاجية في مجتمعاتنا؟

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *