الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• كان الرجل يقف هناك. كلماته تسقط مثل حجارة مكسورة. كان يتحدث عن المدنية، لكن كلماته كانت من زمن الغزو والغنيمة.
سألناه: «كيف ستصلح البلد وأنت لا تستطيع إصلاح جملة؟»
ضحك. كان ضحكه أشبه بصوت حصان مذعور. ثم قال: «نندهز الكلام.. والباقي على الله!»
الأحزاب كانت تصفق. السياسيون الأرزقية القدامى والمستجدون، كانوا يبتسمون. بعضهم يحمل شهادات من جامعات عريقة. كانوا يعرفون أنَّ الرجل جاهل، لكنهم رأوا المال… فـ«الدراهم» تغسل كلَّ شيء، حتى الغواية.
رأيتهم يزحفون نحوه مثل جرذان إلى سفينة غارقة. كانوا يبيعون مبادئهم بثمن بخس… الوطن؟ مجرد كلمة… الكرامة؟ شيء من الماضي.
في النهاية، سيموت الرجل. وسيموتون معه. لكن الشعب سيبقى. وسيتذكر.
الدماء تجف. أما الذكريات فلا.
وأنا لا يسعني إلا أن «أندهز» هذه الفرصة لأكتب عن القائد العظيم (أو هكذا يخيل له)، محمد بن حمدان آل دقلو، الذي أبدع في إعادة اختراع اللغة العربية بلكنة قد تنافس «لغة العصر الحجري»! فبينما يعجز الأدباء عن صياغة الجمل ببراعة، ها هو حميدتي يقدِّم لنا قاموساً جديداً وكلمات أخرى تثير في النفس «الرغبة الشديدة في تعلم الإشارة بدل الكلام»!
منذ متى أصبح «التلعثم اللغوي» مؤهلاً لقيادة دولة؟ سؤال يطرح نفسه بقوة، خاصة عندما نرى هذا القائد الذي يفكر بمنطق «المسدس أولاً.. واللغة لاحقاً»، يتحدث عن المدنية بينما أسلوبه في الخطاب يذكرنا بزمن «الغزو والغنيمة»! فكيف لرجل يخطئ في أبسط الكلمات أن يدعي قدرته على إصلاح ما أفسده الدهر؟
لنكن صادقين: لو كانت «الندهزة» بديلاً عن «الانتهازية»، لكان حميدتي قد حقق إنجازاً لغوياً يدرس في الجامعات! لكن للأسف، الأمر لا يتعدى كونه «فظاظة لفظية» تعكس فكراً غير مرتب وفطير، مثل أفعاله تماماً. فما فائدة أن تتحدث عن «السلام» وأنت تزرع الرعب؟ أو تتغنى بـ«المدنية» وأسلوبك يشبه مخلوقاً خرج للتو من كهف التاريخ؟
أما عن رئاسة حكومته، فالأمر أشبه بتسليم دفة سفينة لبحار يعتقد أن «المحرك يعمل بالشعوذة»! كيف ستبني دولة وأنت لا تملك حتى أدوات التواصل الأساسية؟ كيف ستقنع العالم بأنك «زعيم» بينما كلماتك تثير السخرية أكثر من الاحترام؟
في النهاية، يبقى حميدتي نموذجاً للبوهة الذي «يتكلم أولاً.. ويفكر بعد فوات الأوان»، أو كما يفضل هو أن «يندهز» أولاً فيتبعه الآخرون بلا تبصُّر.
إذا كان «اللسان العربي المبين» يحتاج إلى دفاع عنه، فربما يكون حميدتي هو الدليل الأقوى على أنَّ بعض «الألسنة» تحتاج إلى إعادة تشغيل.. أو إسكات!
لا يسع المرء إلا أن يتساءل: كيف تحولت الساحة السياسية السودانية إلى سوق للصفقات العفنة، حيث تباع المبادئ بأبخس الأثمان، ويشترى الولاء بأوسخ العملات؟ ها هم أولاء، ساسة مزيفون وانتهازيون، يتهافتون على دعم رجل يجسِّد الجهل في أبشع صوره، وكأنَّ التاريخ يعيد نفسه بمذلة جديدة ووجوه جديدة.
في مشهد يخلط بين المأساة والهزء، نرى وجوهاً سياسية عتيقة ببؤسها وبحكم العادة، بعضها يحمل ألقاباً أكاديمية رنانة، تزحف على بطونها نحو سلطة لا تملك من مقومات الشرعية إلا الرصاص والتهديد. أليس عجيباً أن ترى «نخبة» تدعي الوطنية وهي تبارك لرجل أضحى اسمه مرادفاً للفوضى؟ لقد وجدوا في حميدتي كنزاً لا يعوض – ليس لقيادته الحكيمة، بل لسخائه المالي الحرام الذي يغسل ذممهم بكل سهولة.
تلك الأحزاب التي تدعي التقدمية، والتي طالما نعقت بشعارات الديمقراطية، ها هي اليوم تتبارى في مدح رجل لا يستطيع حتى إكمال جملة مفيدة دون أن يتحول حديثه إلى مهزلة لغوية.
لقد برهنوا جميعاً أنهم تجار أزمات محترفون. فما قيمة المبدأ عندهم إذا تعارض مع المنصب؟ وما وزن الكرامة إذا وقف في طريق المصلحة؟ لقد باعوا آخر بقايا مصداقيتهم بثمن بخس، وكأنَّ التاريخ لن يحفظ لهم هذه الخيانة.
إنهم يشبهون الذباب الذي يتجمع على الجرح المتقيح، يظنونه وليمة، وهو في الحقيقة بداية النهاية. فمهما حاولوا تلميع صورة هذا المشروع الفاشل، سيظل حميدتي في وعي الشعب مجرد دمية بيد عصابات، وقناعاً لطائفة أكبر تضم كل هؤلاء الانتهازيين الذين باعوا ضمائرهم في سوق النخاسة السياسية.
في النهاية، سيسجل التاريخ أنَّ هؤلاء لم يكونوا سوى أدوات في مسرحية مأساوية، حيث ارتضوا أن يكونوا مجرد ظلال لرجل لا يستحق حتى أن يكون هامشاً في كتاب وطن.
سيحفظ الشعب السوداني وجوههم. وستعلق نذالتهم كما تحفظ الذاكرة رائحة الدم… كانوا خونة… باعوا الأرض لقاء مقعد مهترئ. لكن التاريخ لا يكتبه المتسلقون. بل الرجال الواقفون.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *