ضابط سابق - باحث في شؤون الأمن الوطني والحرب النفسية
• الذي يتابع ما يجري في كردفان هذه الأيام، يدرك أن الجيش السوداني لا يخوض مجرد معارك متفرقة، بل ينفذ خطة متكاملة، هدفها إغلاق ملف التمرد من جذوره. كل ضربة جوية، كل قصف مدفعي، وكل تحرك بري، يأتي في سياق هندسة عملياتية مدروسة، تسعى لتدمير القوة القتالية للمليشيا، وحرمانها من أي قدرة على إعادة التنظيم أو الهجوم.
في بارا، لم يكن تدمير أربعين عربة قتالية ومقتل قيادات بارزة للمليشيا حدثًا عابرًا، بل صفعة استراتيجية عطّلت هجومًا كان سيستهدف الأبيض، وأغلقت ممرًا حيويًا للمتمردين. وفي مليط، عندما مزقت الطائرات المسيّرة سبع عشرة عربة مزودة بمدافع ثقيلة، كانت الرسالة واضحة: لا خطوط آمنة للعدو بعد اليوم.
الجيش لم يكتفِ بقطع أنفاس المليشيا على الأرض، بل بسط هيمنته الجوية على كامل مسرح العمليات، من الفاشر وأم كدادة إلى أبو زبد وأبو حراز. وفي الوقت نفسه، تتقدم المتحركات البرية من الأبيض نحو دارفور، في عملية تطويق واسعة تهدف إلى محاصرة فلول العدو في جيوب معزولة، يسهل القضاء عليها واحدة تلو الأخرى.
لكن الحسم لا يكون بالسلاح وحده. فالمعركة المعنوية لا تقل أهمية عن الميدان. محاولات المليشيا نشر مقاطع مفبركة من نيالا والضعين، لتوحي بأنها تتحرك في ولايات أخرى، تكشف حجم أزمتها النفسية، وخوفها من الانهيار أمام الحقيقة الميدانية. وفي المقابل، جاءت الاستنفارات في الولاية الشمالية وتحريك الكتائب نحو الخطوط الأمامية، لتؤكد أن الشعب يقاتل بروح واحدة، وأن حدود المعركة ليست خطوطًا على الخريطة، بل هي حدود الكرامة الوطنية.
ولعل أخطر ما يواجه المليشيا اليوم ليس فقط نيران الجيش، بل الانشقاقات التي تضرب صفوفها، كما حدث بانسلاخ النقيب أحمد علي حسب الرسول ومعه 400 مقاتل. إنها علامات تفكك داخلي لن تستطيع قيادة التمرد ترميمه، خاصة في ظل سياسات التمييز، وفقدان الثقة بين عناصرها.
ما يجري الآن ليس جولة جديدة في حرب طويلة، بل هو بداية النهاية لمليشيا احترفت القتل والنهب، واستقوت بالأجنبي على وطنها. الطريق من الأبيض إلى دارفور ليس انسحابًا، بل زحف حاسم نحو آخر معاقل الفوضى. هذه معركة لا تعرف أنصاف الحلول… إما وطن كامل السيادة، أو لا وطن.