معتصم تاج السر

معتصم تاج السر

كاتب صحفي

• هي تلك المقاعد الخفية في قلوبنا، التي نرجع إليها كلما ضاقت بنا الدنيا، وكلما داهمنا الوجع وتاهت خطانا.

هي الأماكن التي جلسنا فيها مع من نحب، وتبادلنا فيها الضحك والدمع، وشممنا منها رائحة الوطن، وشعرنا فيها بأن الحياة رغم قسوتها لا تزال جديرة بأن تُعاش.

على سُرُر الحنين، نستعرض صور الأهل الذين تفرّقوا في المنافي، والأحبة الذين غيّبهم الموت، والبيوت التي هُدمت وبقيت أبوابها مفتوحة في الذاكرة.

هناك، في عمق الحنين، نسكن بصمت، نضمّد جراحنا بالذكرى، ونهمس لأنفسنا سيعود كل شيء جميلاً ذات يوم، فقط لأننا ما زلنا نحب، وما زلنا نذكر، وما زلنا نؤمن بأن السودان يستحق.

في بلادٍ تنزف من خاصرتها كل صباح، في وطنٍ صار يُرسم بالحبر الأحمر على خرائط الجغرافيا وفي شاشات الفضائيات، ومن قبل رسم على قلوبنا المثقلة بالدمع والجراح. 

لقد تعجّب العالم من بؤسنا الذي بيننا كان وما زال شديداً، حتى ملّت وكالات الأنباء من عناويننا العاجلة، وسئمت نشرات الأخبار من تكرار مآسينا، ومنهم من سمّاها: «حرب السودان المنسية»، فأصبحت الأرواح التي تُزهق في صمت، لا تستحق حتى صدى الصراخ.

نحن السودانيين نمر جميعاً بمرحلة حرجة ومفترق طرق. 

فقد أحاطت بنا الابتلاءات من كل جانب في أرواحنا، وأهلنا، ومالنا، وبيوتنا، وأعراضنا. 

منْ منّا لم يُصب بألم…!؟

منْ منّا من لم يفقد أحد أعزائه..! 

منهم من قُتل غدراً  برصاصةٍ أُطلقت لأجل نهب هاتفه، أو من أجل بضعة جنيهات لا تُسمن ولا تُغني من جوع…!

لك أن تتخيّل أن من أراد الذهاب إلى السوق، وفي يده بضعة جنيهات، يضطر إلى دفنها داخل كيس دقيق، يخفيها كما تُخفى الروح من لصوص الطريق، والخوف من مجموعات المليشيا التي نشرت الرعب في الأرض، وكسرت ظهر الأمان.

في زمانهم هذا، أصبح الإنسان أرخص سلعة في أسواقهم، يُباع ويُشترى، يُساوَم عليه كما يُساوم على هاتف منسي، أو شوال قمحٍ في عربة هاربة.

ومِنهم من قصمت ظهره دانة، وبُعثرت أشلاؤه بمسيرةٍ سارت به إلى قبره.

ومِنهم من قُيّد بالسلاسل، واعتُقِل حتى الموت في معتقلاتِ أعداء هذا الشعب والدين.

ومِنهم من احترق في الحاويات، ودُفن في مقابر جماعية لا يُعرف لها شاهد ولا تاريخ.

ومِنهم من صار قبره «سابتانك»، أو بئراً بلا اسم، طُمس فيها الجسد كما طُمست الحقيقة.

ومنهم موتى بالأمراض والإهمال أو حوادث، والكثير منهم مات حسرةً وألماً، ماتوا في المنافي، في ملاجئ الغربة، وهم يتمنّون شبراً في تراب السودان، لكنهم غابوا غرباء… 

دُفن بعضهم في الصحراء الممتدة ما بين تشاد، ومصر، وإثيوبيا، وإريتريا، والكثير منهم في عواصم عربية وأخرى أجنبية… بلا وداعٍ.

في بلبيس شرق القاهرة، هناك مقبرة صغيرة تُطلّ على صمتٍ لا ينكسر، دُفن فيها رجال ونساء وأطفال من السودان، كأنهم أوراق شجر سقطت من شجرة الوطن في خريفٍ لا ينتهي.

في مقبرة مسيمير، على أطراف الدوحة، تُسجّل كل يوم قصة من لم يحتمل الغربة، أو أنهكه الشقاء، فأسلم الروح بعيداً عن دفء الأهل.

في الشارقة، بجوار ناطحات الزجاج، حيث سماحة التنظيم وحسن التدبير والترتيب في مواراة الثرى. 

هناك يرقد من جاؤوا بحثاً عن الحياة، فوجدوا الموت أكثر رفقاً من تعب الأيام.

وفي مقابر جنوب الرياض، تنام أسماء سودانية تحت أرض لا تشبه النيل وحنينه.

وما أقسى الموت في الغربة…!

ذلك الفرق العظيم بين أن تُفارق الحياة في أرضٍ تعرف وجعك، وفي ترابٍ يعرف قدميك، وبين أن تموت حيث لا أحد يعرفك، ولا يسمع فيك النداء.

الموت في السودان له طقوس لا تُشترى، ولا تُستعار.

عندما يموت لأحدنا هناك عزيز، يلفّه الجميع بحنين المودة السودانية الخالصة، فتمتزج المقالدة بالفاتحة، والحزن بالحُبّ.

لا قيود ولا دعوات مسبقة، ولا قوائم انتظار للعزاء.

الجميع أهل…

الجميع يأتون ليحملوا عنك جزءاً من ألمك،

يذرفون الدموع بصدق، ويمسحونها بحنوّ لا يُشبه إلا السودانيين.

في السودان…

الموت ليس نهاية…

بل بداية لكرم الحزن وجلال العزاء، فيه يحضر كل شيء العناق، والذكريات، وصوت القرآن، وصينية القهوة، وصحن العصيدة، فيه حنينٌ أكثر من الحزن… 

ومودةٌ أكثر من الوداع.

إن السودان وأهله في كربٍ عظيم، لا ملجأ منه إلا إلى الله، رب السماوات والأرض.

سقطت الأقنعة، وضاقت الحيلة، وتهشّم الفرح على عتبات البيوت.

صار الغني فقيراً صابراً، وصار الفقير مُنهكاً محتسباً، ولا حول لنا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فلنحتكم للعقل، ولنكفكف الدمع بالتدبير، وحسن القرار كما يقول أهلنا: «نرشد قليلتنا».

من يملك قوت عامٍ في بلد، فليبحث له عن بلد أرخص، يعيش فيه بما يملك أعواماً أكثر .

ومن كانت له حرفة أو صنعة، فليبادر بها، ولا يستنكف عن العمل، فالشرف كل الشرف في الكدّ.

ومن كان مديراً، فليتّسع صدره للتواضع، وليَقبل أن يكون أجيراً، ولو إلى حين، فما من عيبٍ في أن نبدأ من جديد إذا كان في ذلك نجاة بشرف.

فلنصطبر على بعضنا، ولنتحلَّ بجميل الخُلق، ورفق الكلمة، وستر العيب، فالتعب عمّ الجميع، والحاجة وحدتنا.

ونصيحتي الصادقة للكثيرين ابتعدوا عن وسائل التواصل إن كانت ستصبح ساحةً لعرض سوء الخلق، والتنمّر، وغياب الاحترام.

ففي الضيق، تظهر أسوأ طبائع البشر، وتنكشف المعادن، لذا… ارحمونا يا أهل المنصّات، يا من غرقتم في التيك توك وغيره، فإن في الصمت حكمة، وفي الستر مروءة، وفي الكلمة الطيبة صدقة.

والتحية من القلب للأمهات، وللزوجات والأخوات الصابرات، المقدّرات للظروف التي يمر بها الآباء والأزواج.

فواللهِ إنّ الحملَ ثقيل، والجراحَ موجعة، وفي وسط هذا الألم تقلُّ الحيلة، وينفد الصبر، وتحتدُّ الأخلاق.

لكن بعض النساء يُشبهن ضوء المصابيح في الليالي المعتمة، يشعنَّ حناناً وصبراً…

فيعم سناهنّ لمن حولهن.

فالشكر كل الشكر لكل أمٍ احتملت وأخت عذرت، ولكل زوجةٍ صبرت، وداوت الجراح بالحُبّ، وبحسن التبعّل، فكنّ بلسماً في زمنٍ يُوجع الروح.

فلنحب بعضنا أكثر

ونحتمل أكثر… 

لنعبر هذا الزمن معاً.

فإن للمستقبل وجوهاً تشبهنا،

ولنا فيه، بإذن الله، موعد مع شمسٍ لا تغيب.

اللهم يا واسع الرحمة، ويا خبيراً بوجع الغربة، اغفر لكل من مات بعيداً عن وطنه، وردّ أرواحهم إليك راضية مرضية، فقد اشتاقوا لترابٍ لم يسعفهم القدر لاحتضانه.

اللهم اجعل قبورهم برداً وسلاماً، واجعل الغربة لهم جنةً قبل الجنة، واكتب لهم أجر الصبر عن كل لحظة كانوا فيها وحدهم في بلاد لا تعرف أسماءهم.

اللهم اجزِ الأمهات الصابرات، والأخوات المحتسبات، والزوجات الطيبات خير الجزاء، فهنّ زهرات هذا الوطن، بلسم الجراح، ورفيقات الدرب، سكينتهنَّ عزاؤنا، ورضاهنَّ قوتنا.

ربنا إن قلوبنا مثقلة، لكننا نثق بكَ.

نؤمن أن المستقبل لهذا السودان الحبيب، فبك وحدك يا الله نعلّق الرجاء، وبك نستبشر غداً أخضر يليق بنا جميعاً.

آمين. 

محبتي والسلام

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *